إنها ثلثها، فأخذ الشافعي بالثلث الذي هو الأقل، وظن ظانون أنه تمسك بالاجماع، وهو سوء ظن بالشافعي رحمه الله، فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر فلا مخالف فيه، وإنما المختلف فيه سقوط الزيادة، ولا إجماع فيه، بل لو كان الاجماع على الثلث إجماعا على سقوط الزيادة لكان موجب الزيادة خارقا للاجماع، ولكان مذهبه باطلا على القطع، لكن الشافعي أوجب ما أجمعوا عليه، وبحث عن مدارك الأدلة، فلم يصح عنده دليل على إيجاب الزيادة، فرجع إلى استصحاب الحال في البراءة الأصلية التي يدل عليها العقل، فهو تمسك بالاستصحاب، ودليل العقل لا بدليل الاجماع، كما سيأتي معناه إن شاء الله تعالى، وهذا تمام الكلام في الاجماع الذي هو الأصل الثالث.
الأصل الرابع: دليل العقل والاستصحاب اعلم أن الاحكام السمعية لا تدرك بالعقل، لكن دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات، وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم السلام وتأييدهم بالمعجزات، وانتفاء الاحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع، ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع، فإذا ورد نبي وأوجب خمس صلوات فتبقى الصلاة السادسة غير واجبة، لا بتصريح النبي بنفيها لكن كان وجوبها منتفيا، إذ لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لان نطقه بالايجاب قاصر على الخمسة، فبقي على النفي في حق السادسة، وكأن السمع لم يرد، وكذلك إذا أوجب صوم رمضان بقي صوم شوال على النفي الأصلي، وإذا أوجب عبادة في وقت بقيت الذمة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية، وإذا أوجب على القادر بقي العاجز على ما كان عليه، فإذا النظر في الاحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها، أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه، وأم النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي، فانتهض دليلا على أحد الشطرين وهو النفي، فإن قيل: إذا كان العقل دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد بعثة الرسل ووضع الشرع لا يعلم نفي السمع، فلا يكون انتفاء الحكم معلوما، ومنتهاكم عدم العلم بورود السمع وعدم العلم لا يكون حجة؟ قلنا: انتفاء الدليل السمعي قد يعلم، وقد يظن، فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال، ولا على وجوب صلاة سادسة، إذ نعلم أنه لو كان لنقل وانتشر ولما خفي على جميع الأمة، وهذا علم بعدم الدليل، وليس هو عدم العلم بالدليل، فإن عدم العلم بالدليل ليس بحجة، والعلم بعدم الدليل حجة أما الظن، فالمجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة في وجوب الوتر والأضحية وأمثالهما فرآها ضعيفة ولم يظهر له دليل مع شدة بحثه وعنايته بالبحث غلب على ظنه انتفاء الدليل، فنزل ذلك منزلة العلم في حق العمل، لأنه ظن استند إلى بحث واجتهاد، وهو غاية الواجب على المجتهد، فإن قيل: ولم يستحيل أن يكون واجبا ولا يكون عليه دليل، أو يكون عليه دليل لم يبلغنا؟ قلنا: أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال، لأنه تكليف بما لا يطاق، ولذلك نفينا الاحكام قبل ورود السمع، وأما إن كان عليه دليل ولم يبلغنا فليس دليلا في حقنا، إذ لا تكليف علينا إلا فيما بلغنا، فإن قيل:
فيقدر كل عامي أن ينفي مستندا إلى أنه لم يبلغه الدليل؟ قلنا: هذا إنما يجوز للباحث