فقد حصل هذا العلم بواسطة، لكنها جلية في الذهن حاضرة ولهذا لو قيل: ستة وثلاثون، هل هو نصف اثنين وسبعين يفتقر فيه إلى تأمل ونظر حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزأين متساويين: أحدهما: ستة وثلاثون، فإذا العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات وما هو كذلك فهو ليس بأولي، وهل يسمى ضروريا هذا ربما يختلف في الاصطلاح، والضروري عند الأكثرين عبارة عن الأولي لا عما نجد أنفسنا مضطرين إليه، فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية وهي نظرية، ومعنى كونها نظرية أنها ليست بأولية، وكذلك العلم بصدق خبر التواتر، ويقرب منه العلم المستفاد من التجربة التي يعبر عنها باطراد العادات كقولنا الماء مرو، والخمر مسكر، كما نبهنا عليه في مقدمة الكتاب، فإن قيل: لو استدل مستدل على كونه غير ضروري بأنه لو كان ضروريا لعلمنا بالضرورة كونه ضروريا، ولما تصور الخلاف فيه، فهذا الاستدلال صحيح أم لا؟ قلنا: إن كان الضروري عبارة عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فبالضرورة نعلم من أنفسنا أنا مضطرون إليه، وإن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة فيجوز أن يحتاج في معرفة ذلك إلى تأمل، ويقع الشك فيه كما يتصور أن نعتقد شيئا على القطع، ونتردد في أن اعتقادنا علم محقق أم لا.
الباب الثاني في شروط التواتر وهي أربعة: الأول: أن يخبروا عن علم لا عن ظن، فإن أهل بغداد لو أخبرونا عن طائر أنهم ظنوه حماما، أو عن شخص أنهم ظنوه زيدا لم يحصل لنا العلم بكونه حماما وبكونه زيدا، وليس هذا معللا، بل حال المخبر لا تزيد على حال المخبر، لأنه كان في قدرة الله تعالى أن يخلق لنا العلم بخبرهم وإن كان عن ظن ولكن العادة غير مطردة بذلك. الشرط الثاني: أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس، إذ لو أخبرنا أهل بغداد عن حدوث العالم وعن صدق بعض الأنبياء لم يحصل لنا العلم، وهذا أيضا معلوم بالعادة، وإلا فقد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل ذلك سببا للعلم في حقنا.
الشرط الثالث: أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد، فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الاعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر، لم يحصل العلم بصدقهم، لان خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه، فلا بد من شروط، ولا جل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته، ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم، وإن كثر عدد الناقلين في هذه الاعصار القريبة، لان بعض هذا وضعه الآحاد أولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده، والشرط إنما حصل في بعض الاعصار فلم تستو فيه الاعصار، ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وانتصابهما للإمامة، فإن كل ذلك لما تساوت فيه الأطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه، ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما السلام، وفي نص الإمامة. الشرط الرابع: في العدد وتهذب الغرض منه برسم مسائل:
- مسألة (العدد الذي يحصل به التواتر) عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم، وإلى ما هو كامل وهو