صدر الكتاب اعلم أن هذا العلم الملقب بأصول الفقه قد رتبناه وجمعناه في هذا الكتاب، وبنيناه على مقدمة وأربعة أقطاب، المقدمة لها كالتوطئة والتمهيد، والأقطاب هي المشتملة على لباب المقصود ولنذكر في صدر الكتاب معنى أصول الفقه وحده وحقيقته أولا، ثم مرتبته ونسبته إلى العلوم ثانيا، ثم كيفية إنشعابه إلى هذه المقدمة والأقطاب الأربعة ثالثا، ثم كيفية اندراج جميع أقسامه وتفاصيله تحت الأقطاب الأربعة رابعا، ثم وجه تعلقه بهذه المقدمة خامسا.
بيان حد أصول الفقه اعلم أنك لا تفهم معنى أصول الفقه ما لم تعرف أولا معنى الفقه، والفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع، يقال: فلان يفقه الخير والشر، أي يعلمه ويفهمه، ولكن صار بعرف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لافعال المكلفين خاصة، حتى لا يطلق بحكم العادة اسم الفقيه على متكلم وفلسفي ونحوي ومحدث ومفسر، بل يختص بالعلماء بالأحكام الشرعية الثابتة للأفعال الانسانية، كالوجوب، والحظر، والإباحة، والندب والكراهة، وكون العقد صحيحا وفاسدا وباطلا، وكون العبادة قضاء وأداء وأمثاله. ولا يخفى عليك أن للأفعال أحكاما عقلية، أي مدركة بالعقل، ككونها أعراضا وقائمة بالمحل ومخالفة للجوهر، وكونها أكوانا حركة وسكونا وأمثالها، والعارف بذلك يسمى متكلما لا فقيها. وأما أحكامها من حيث إنها واجبة ومحظورة، ومباحة ومكروهة ومندوب إليها، فإنما يتولى الفقيه بيانها، فإذا فهمت هذا، فافهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها على الاحكام من حيث الجملة، لا من حيث التفصيل، فإن علم الخلاف من الفقه أيضا مشتمل على أدلة الاحكام ووجوه دلالتها، ولكن من حيث التفصيل كدلالة حديث خاص في مسألة النكاح بلا ولي على الخصوص، ودلالة آية خاصة في مسألة متروك التسمية على الخصوص. وأما الأصول: فلا يتعرض فيها لاحدى المسائل، ولا على طريق ضرب المثال، بل يتعرض فيها لأصل الكتاب والسنة والاجماع، ولشرائط صحتها وثوبتها، ثم لوجوه دلالتها الجميلة، إما من حيث صيغتها أو مفهوم لفظها أو مجرى لفظها أو معقول لفظها وهو القياس، من غير أن يتعرض فيها لمسألة خاصة، فبهذا تفارق أصول الفقه فروعه، وقد عرفت