أما ثبوت الاحكام بأفعاله في النوم والغفلة فلا ينكر، كلزوم الغرامات وغيرها، وكذلك تكليف السكران الذي لا يعقل محال، كتكليف الساهي والمجنون والذي يسمع ولا يفهم، بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه، ومن المجنون الذي يفهم كثيرا من الكلام، وأما نفوذ طلاقه ولزوم الغرم فذلك من قبيل ربط الاحكام بالأسباب، وذلك مما لا ينكر، فإن قيل: فقد قال الله تعالى: * (في) * (النساء: 34)، وهذا خطاب للسكران قلنا إذا ثبت بالبرهان استحالة خطابه وجب تأويل الآية، ولها تأويلان: أحدهما أنه خطاب مع المنتشي الذي ظهر فيه مبادئ النشاط والطرب، ولم يزل عقله، فإنه قد يستحسن من اللعب والانبساط ما لا يستحسنه قبل ذلك ولكنه عاقل. وقوله تعالى: * (حتى تعلموا ما تقولون) * (النساء: 34) معناه: حتى تتبينوا ويتكامل فيكم ثباتكم، كما يقال للغضبان، إصبر حتى تعلم ما تقول: أي حتى يسكن غضبك فيكمل علمك، وإن كان أصل عقله باقيا، وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة، مثل هذا السكران، وقد يعسر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع. الثاني: أنه ورد الخطاب به في ابتداء الاسلام قبل تحريم الخمر، وليس المراد المنع من الصلاة، بل المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة، كما يقال: لا تقرب التهجد وأنت شبعان، ومعناه: لا تشبع فيثقل عليك التهجد. - مسألة (أمر الله تعالى في الأزل) فإن قال قائل: ليس من شرط الامر عندكم كون المأمور موجودا إذ قضيتم بأن الله تعالى آمر في الأزل لعباده قبل خلقهم، فكيف شرطتم كون المكلف سميعا عاقلا، والسكران والناسي والصبي والمجنون أقرب إلى التكليف من المعدوم؟ قلنا: ينبغي أن يفهم معنى قولنا إن الله تعالى آمر وإن المعدوم مأمور فإنا نعني به أنه مأمور على تقدير الوجود، لا أنه مأمور في حالة العدم، إذ ذلك محال، لكن أثبت الذاهبون إلى إثبات كلام النفس أنه لا يبعد أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد، وإنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا بذلك الطلب ومأمورا به، فكذلك المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم، تعلق بعباده على تقدير وجودهم فإذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء، ومثل هذا جار في حق الصبي والمجنون، فإن انتظار العقل لا يزيد على انتظار الوجود، ولا يسمى هذا المعنى في الأزل خطابا، إنما يصير خطابا إذا وجد المأمور وأسمع، وهل يسمى أمرا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه يسمى به، إذ يحسن أن يقال فيمن أوصى أولاده بالتصدق بماله أن يقال: فلان أمر أولاده بكذا، وإن كان بعض أولاده مجتنا في البطن، أو معدوما، ولا يحسن أن يقال: خاطب أولاده إلا إذا حضروا وسمعوا ثم إذا أوصى فنفذوا وصيته، يقال: قد أطاعوه وامتثلوا أمره، مع أن الآمر الآن معدوم، والمأمور كان وقت وجود الآمر معدوما، وكذلك نحن الآن بطاعتنا ممتثلون أمر رسول الله (ص)، وهو معدوم عن عالمنا هذا، وإن كان حيا عند الله تعالى، فإذا لم يكن وجود الآمر شرطا لكون المأمور مطيعا ممتثلا، فلم يشترط وجود المأمور، لكون الامر أمرا. فإن قيل: أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر للمعدوم على وجه الالزام؟ قلنا: نعم، نحن نقول: هو آمر، لكن على تقدير الوجود، كما يقال: الوالد موجب وملزم على أولاده التصدق إذا عقلوا وبلغوا
(٦٨)