فما نقله الآحاد فلا استحالة فيه ولا مانع، فإن ما أشاعه كان يجوز أن لا يتعبد فيه بالإشاعة، وما وكله إلى الآحاد كان يجوز أن يتعبد فيه بالإشاعة، لكن وقوع هذه الأمور يدل على أن التعبد وقع كذلك، فما كان يخالف أمر الله سبحانه وتعالى في شئ من ذلك، هذا تمام الكلام في الاخبار والله أعلم.
الأصل الثالث من أصول الأدلة: الاجماع وفيه أبواب الباب الأول في إثبات كونه حجة على منكريه ومن حاول إثبات كون الاجماع حجة افتقر إلى تفهيم لفظ الاجماع أولا، وبيان تصوره ثانيا، وبيان إمكان الاطلاع عليه ثالثا، وبيان الدليل على كونه حجة رابعا. أما تفهيم لفظ الاجماع: فإنما نعني به اتفاق أمة محمد (ص) خاصة على أمر من الأمور الدينية، ومعناه في وضع اللغة: الاتفاق والإزماع، وهو مشترك بينهما، فمن أزمع وصمم العزم على إمضاء أمر يقال أجمع، والجماعة إذا اتفقوا يقال: أجمعوا، وهذا يصلح لاجماع اليهود والنصارى، وللاتفاق في غير أمر الدين، لكن العرف خصص اللفظ بما ذكرناه، وذهب النظام إلى أن الاجماع عبارة عن كل قول قامت حجته، وإن كان قول واحد، وهو على خلاف اللغة والعرف، لكنه سواه على مذهبه، إذ لم ير الاجماع حجة، وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الاجماع، فقال: هو كل قول قامت حجته. أما الثاني:
وهو تصوره: فدليل تصوره وجوده، فقد وجدنا الأمة مجمعة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب، وكيف يمتنع تصوره والأمة كلهم متعبدون باتباع النصوص والأدلة القاطعة، ومعرضون للعقاب بمخالفتها، فكما لا يمتنع اجتماعهم على الأكل والشرب لتوافق الدواعي، فكذلك على اتباع الحق واتقاء النار، فإن قيل: الأمة مع كثرتها واختلاف دواعيها في الاعتراف بالحق والعناد فيه، كيف تتفق آراؤها فذلك محال منها، كاتفاقهم على أكل الزبيب مثلا في يوم واحد، قلنا: لا صارف جميعهم إلى تناول الزبيب خاصة ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق، كيف وقد تصور إطباق اليهود مع كثرتهم على الباطل، فلم لا يتصور إطباق المسلمين على الحق، والكثرة إنما تؤثر عند تعارض الأشباه والدواعي والصوارف ومستند الاجماع في الأكثر نصوص متواترة وأمور معلومة ضرورة بقرائن الأحوال، والعقلاء كلهم فيه على منهج واحد، نعم: هل يتصور الاجماع عن اجتهاد أو قياس؟ ذلك فيه كلام سيأتي إن شاء الله. أما الثالث: وهو تصور الاطلاع على الاجماع:
فقد قال قوم: لو تصور إجماعهم فمن الذي يطلع عليهم مع تفرقهم في الأقطار؟ فنقول : يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم، وإن لم يمكن عرف مذهب قوم بالمشافهة، ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم، كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعي منع قتل المسلم بالذمي، وبطلان النكاح بلا ولي، ومذهب جميع النصارى التثليث، ومذهب جميع المجوس التثنية، فإن قيل: مذهب أصحاب الشافعي وأبي حنيفة مستند إلى قائل واحد وهو الشافعي وأبو حنيفة، وقول الواحد يمكن أن يعلم، وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام، أما قول جماعة لا ينحصرون كيف يعلم؟ قلنا: وقول أمة محمد (ص) في أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد (ص)