اسمه على تركيب مقدمتين يحصل منهما نتيجة، كقول القائل: كل مسكر حرام، وكل نبيذ مسكر، فيلزم منه أن كل نبيذ حرام، فإن لزوم هذه النتيجة من المقدمتين لا ننكره، لكن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بنوع من المساواة، إذ تقول العرب: لا يقاس فلان إلى فلان في عقله ونسبه وفلان يقاس إلى فلان، فهو عبارة عن معنى إضافي بين شيئين، وقال بعض الفقهاء: القياس هو الاجتهاد، وهو خطأ، لان الاجتهاد أعم من القياس، لأنه قد يكون بالنظر في العمومات ودقائق الألفاظ وسائر طرق الأدلة سوى القياس، ثم أنه لا ينبئ في عرف العلماء إلا عن بذل المجتهد وسعه في طلب الحكم، ولا يطلق إلا على من يجهد نفسه ويستفرغ الوسع، فمن حمل خردلة لا يقال اجتهد، ولا ينبئ هذا عن خصوص معنى القياس، بل عن الجهد الذي هو حال القياس فقط.
مقدمة أخرى في حصر مجاري الاجتهاد في العلل اعلم أنا نعني بالعلة في الشرعيات مناط الحكم، أي ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه، والاجتهاد في العلة إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم أو في تنقيح مناط الحكم أو في تخريج مناط الحكم واستنباطه. أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم: فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه مثاله الاجتهاد في تعيين الامام بالاجتهاد مع قدرة الشارع في الامام الأول على النص، وكذا تعيين الولاة والقضاة، وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات، وإيجاب المثل في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وطلب المثل في جزاء الصيد، فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية، وذلك معلوم النص، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين، وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين. أحدهما: أنه لا بد من الكفاية. والثاني: أن الرطل قدر الكفاية فيلزم منه أنه الواجب على القريب، أما الأصل الأول فمعلوم بالنص والاجماع، وأما الثاني فمعلوم بالظن، وكذلك نقول يجب في حمار الوحش بقرة، لقوله تعالى: * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) * (المائدة: 59) فنقول:
المثل واجب، والبقرة مثل، فإذا هي الواجب، والأول معلوم بالنص وهي المثلية التي هي مناط الحكم، أما تحقق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد، وكذلك من أتلف فرسا فعليه ضمانه، والضمان هو المثل في القيمة، أما كونه مائة درهم مثلا في القيمة فإنما يعرف بالاجتهاد، ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة وليس ذلك من القياس في شئ بل الواجب استقبال جهة القبلة وهو معلوم بالنص، أما أن هذه جهة القبلة فإنه يعلم بالاجتهاد والامارات الموجبة للظن عند تعذر اليقين، وكذلك حكم القاضي بقول الشهود ظني لكن الحكم بالصدق واجب، وهو معلوم بالنص، وقول العدل صدق معلوم بالظن وأمارات العدالة، والعدالة لا تعلم إلا بالظن فلنعبر عن هذا الجنس بتحقيق مناط الحكم، لان المناط معلوم، بنص أو إجماع لا حاجة إلى استنباطه، لكن تعذرت معرفته باليقين فاستدل عليه بإمارات ظنية، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، وهو نوع اجتهاد، والقياس مختلف فيه، فكيف يكون هذا قياسا وكيف يكون مختلفا فيه، وهو ضرورة كل شريعة، لان التنصيص على عدالة الاشخاص وقدر كفاية كل شخص محال، فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف