نحن نعترف بأنه لا خلاص عن هذا الاشكال إلا بتصويب كل مجتهد، وأن المجتهد وإن خالف النص فهو مصيب إذ لم يكلف إلا بما بلغه، فالخطأ غير ممكن في حقه، أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فيلزمه هذا الاشكال، وأما اختلاط الرضيعة بأجنبيات فلسنا نسلم أن المانع مجرد، إمكان الخطأ، فإنه لو شك في رضاع امرأة حل له نكاحها، والخطأ ممكن، لكن الشرع إنما أباح نكاح امرأة يعلم أنها أجنبية بيقين، وحكم أن اليقين لا يندفع بالشك الطارئ، أما إذا تعارض يقينان وهو يقين التحريم والتحليل، فليس ذلك في معنى اليقين الصافي عن المعارضة، ولا في معنى اليقين الذي لم يعارضه إلا الشك المجرد فلم يلحق به اتباعا لموجب الدليل، ولو ورد الشرع بالرخصة فيه لم يكن ذلك ممتنعا.
- مسألة (القائلين بوجوب القياس عقلا) الذين ذهبوا إلى أن التعبد بالقياس واجب عقلا متحكمون فمطالبون بالدليل ولهم شبهتان: الأولى: أن الأنبياء مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة، والصور لا نهاية لها فكيف تحيط النصوص بها، فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة، فنقول: هذا فاسد لان الحكم في الاشخاص التي ليست متناهية، إنما يتم بمقدمتين كلية، كقولنا: كل مطعوم ربوي، وجزئية كقولنا: هذا النبات مطعوم، أو الزعفران مطعوم، وكقولنا: كل مسكر حرام وهذا الشراب بعينه مسكر، وكل عدل مصدق، وزيد عدل، وكل زان مرجوم، وماعز قد زنى فهو إذا مرجوم، والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة، وهو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم، وليس ذلك بقياس، أما المقدمة الكلية فتشتمل على مناط الحكم وروابطه، وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكلية، كقوله: كل مطعوم ربوي، بدلا عن قوله: لا تبيعوا البر بالبر، وكقوله: كل مسكر حرام، بدلا عن قوله: حرمت الخمر، وإذا أتى بهذه الألفاظ العامة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم واستغنى عن القياس، هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم ولم يستحيل خلو بعضها عن الحكم فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يراد فيه إلى اليقين فيقال: من تيقنتم صدقة، وما تيقنتم كونه مطعوما أو مسكرا فاحكموا به، وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حكم الأصل، إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات، لأنه لا سبيل إلى تيقين صدق الشهود وعدالة القضاة والولاة، ولا سبيل إلى تقدير متيقن في كفاية الأقارب وأروش المتلفات، فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضر بجانب الموجب عليه كما يضر التقليل بجانب الموجب له، فالاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ضرورة، أما في تخريج المناط وتنقيح المناط فلا. الثانية: قولهم إن العقل كما دل على العلل العقلية دل على العلل الشرعية، فإنها تدرك بالعقل، ومناسبة الحكم مناسبة عقلية مصلحة يتقاضى العقل ورود الشرع بها، وهذا فاسد، لان القياس إنما يتصور لخصوص النص ببعض مجاري الحكم، وكل حكم قدر خصوصه، فتعميمه ممكن، فلو عم لم يبق للقياس مجال، وما ذكروه من قياس العلة الشرعية بالعلة العقلية خطأ، لان من العلل ما لا يناسب، وما تناسب لا توجب الحكم لذاتها، بل يجوز أ يتخلف الحكم عنها فيجوز أن لا يحرم المسكر وأن لا يوجب الحد بالزنا والسرقة، وكذا سائر العلل والأسباب.