هذا فلعله لمعنى آخر إلا أن يتكلف حصر المعاني وينفي جميعها سوى الوجود، فعند ذلك ينتج فهذه أشكال البراهين، فكل دليل لا يمكن رده إلى واحد من هذه الأنواع الخمسة فهو غير منتج البتة، ولهذا شرح أطول من هذا ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم.
الفصل الثاني: من فن المقاصد في بيان مادة البرهان: وهي المقدمات الجارية من البرهان مجرى الثوب من القميص، والخشب من السرير، فإن ما ذكرناه يجري مجرى الخياطة من القميص، وشكل السرير من السرير، وكما لا يمكن أن يتخذ من كل جسم سيف وسرير، إذ لا يتأتى من الخشب قميص، ولا من الثوب سيف، ولا من السيف سرير، فكذلك لا يمكن أن يتخذ من كل مقدمة برهان منتج، بل البرهان المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية، إن كان المطلوب يقينا، أو ظنية إن كان المطلوب فقهيا، فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته، ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها يقتنص اليقين، أما اليقين فشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت إليها فلها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يتيقن ويقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعها به صحيح ويتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس، فلا يجوز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ، بل حيث لو حكى لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبي وأن ما ظن من معجزة فهي مخرقة، وبالجملة فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله، وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبيا على سر به انكشف له نقيض اعتقادها، فليس اعتقادها يقينا، مثاله قولنا الثلاثة أقل من الستة، وشخص واحد لا يكون في مكانين، والشئ الواحد لا يكون قديما حادثا موجودا معدوما ساكنا متحركا، في حالة واحدة. الحالة الثانية: أن تصدق بها تصديقا جزما لا تتمارى فيه ولا تشعر بنقيضها البتة، ولو أشعرت بنقيضها تعسر إذعانها للاصغاء إليه، ولكنها لو ثبتت وأصغت وحكى لها نقيض معتقدها عمن هو أعلم الناس عندها كنبي أو صديق أورث ذلك فيها توقفا ولنسم هذا الجنس اعتقادا جزما، وهو أكثر اعتقادات عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة، فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعا بحسن الظن في الصبا فوقع عليه نشؤوهم، فإن المستقل بالنظر الذي يستوي ميله في نظره إلى الكفر والاسلام عزيز. الحالة الثالثة: أن يكون لها سكون إلى الشئ والتصديق به، وهي تشعر بنقيضه أو لا تشعر، لكن لو أشعر ت به لم ينفر طبعها عن قبوله، وهذا يسمى ظنا وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى، فمن سمع من عدل شيئا سكنت إليه نفسه، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون، وإن انضاف إليه ثالث زاد السكون والقوة فإن انضافت إليه تجربة لصدقهم على الخصوص زادت القوة، فإن انضافت إليه قرينة، كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وقد اصفرت وجوههم واضطربت أحوالهم زاد الظن، وهكذا لا يزال