فإنا نعلمه غير معين، ولو خاطب السيد عبده بأني أوجبت عليك الخياطة أو البناء فكيف يعلمه الله تعالى ولا يعلمه إلا على ما هو عليه من نعته، ونعته أنه غير معين فيعلمه غير معين، كما هو عليه، وهذا التحقيق، وهو أن الواجب ليس له وصف ذاتي من تعلق الايجاب به ، وإنما هو إضافة إلى الخطاب، والخطاب بحسب النطق والذكر، وخلق السواد في أحد الجسمين لا بعينه، وخلق العلم في أحد الشخصين لا بعينه غير ممكن، فأما ذكر واحد من اثنين لا على التعيين فممكن، كمن يقول لزوجتيه: إحداكما طالق، فالايجاب قول يتبع النطق، فإن قيل الموجب طالب، ومطلوبه لا بد أن يتميز عنده قلنا: يجوز أن يكون طلبه متعلقا بأحد أمرين، كما تقول المرأة: زوجني من أحد الخاطبين أيهما كان، وأعتق رقبة من هذه الرقاب أيها كانت، وبايع أحد هذين الامامين أيهما كان، فيكون المطلوب أحدهما لا بعينه، وكل ما تصور طلبه تصور إيجابه، فإن قيل: أن الله سبحانه يعلم ما سيأتي به المكلف ويتأدي به الواجب فيكون معينا في علم الله تعالى؟ قلنا: يعلمه الله تعالى غير معين، ثم يعلم أنه يتعين بفعله ما لم يكن متعينا قبل فعله، ثم لو أتى بالجميع أو لم يأت بالجميع فكيف يتعين واحد في علم الله تعالى، فإن قيل: فلم لا يجوز أن يوجب على أحد شخصين لا بعينه، ولم قلتم بأن فرض الكفاية على الجميع مع أن الوجوب يسقط بفعل واحد؟ قلنا: لان الوجوب يتحقق بالعقاب، ولا يمكن عقاب أحد الشخصين لا بعينه، ويجوز أن يقال أنه يعاقب على أحد الفعلين لا بعينه.
- مسألة (أصناف الواجب من حيث الوقت) الواجب ينقسم بالإضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع، وقال قوم: التوسع يناقض الوجوب، وهو باطل عقلا وشرعا. أما العقل: فإن السيد إذا قال لعبده: خط هذا الثوب في بياض هذا النهار إما في أوله أو في أوسطه أو في آخره كيفما أردت، فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي، فهذا معقول، ولا يخلو إما أن يقال لم يوجب شيئا أصلا، أو أوجب شيئا مضيقا، وهما محالان، فلم يبق إلا أنه أوجب موسعا. وأما الشرع: فالاجماع منعقد على وجوب الصلاة عند الزوال، وأنه مهما صلى كان مؤديا للفرض وممتثلا لأمر الايجاب، مع أنه لا تضييق، فإن قيل: حقيقة الواجب ما لا يسع تركه، بل يعاقب عليه، والصلاة والخياطة إن أضيفا إلى آخر الوقت فيعاقب على تركه، فيكون وجوبه في آخر الوقت، أما قبله فيتخير بين فعله وتركه وفعله خير من تركه، وهذا حد الندب؟ قلنا: كشف الغطاء عن هذا، أن الأقسام في العقل ثلاثة: فعل لا عقاب على تركه مطلقا وهو الندب، وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب، وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت، ولكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا قسم ثالث، فيفتقر إلى عبارة ثالثة، وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب، فأولى الألقاب به الواجب الموسع، أو الندب الذي لا يسع تركه، وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا، بدليل انعقاد الاجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة، وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب، فإذا الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل، والنزاع يرجع إلى اللفظ، والذي ذكرناه أولى، فإن قيل: ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالإضافة إلى أول الوقت ندب، إذ يجوز تركه، وبالإضافة إلى آخر الوقت حتم إذ لا