فإنهما يقبلان النسخ، والاجماع لا يقبله، فالاجماع على خلاف ما في الكتاب، والسنة دليل قاطع على النسخ، إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ، ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة على رتبة واحدة، لان كل واحد يفيد العلم القاطع، ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا، فما وجد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به، وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره، ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الأقيسة، فإن عارض قياس عموما أو خبر واحد عموما فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها، فإن لم يجد لفظا نصا ولا ظاهرا نظر إلى قياس النصوص، فإن تعارض قياسات أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره، فإن تساويا عنده توقف على رأي وتخير على رأي آخر كما سبق . المقدمة الثانية: في حقيقة التعارض ومحله. اعلم أن الترجيح إنما يجري بين ظنين لان الظنون تتفاوت في القوة ولا يتصور ذلك في معلومين، إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب من بعض، وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد استغناء عن التأمل، بل بعضها يستغني عن أصل التأمل وهو البديهي، وبعضها غير بديهي يحتاج إلى تأمل، لكنه بعد الحصول محقق يقيني لا يتفاوت في كونه محققا، فلا ترجيح لعلم على علم، ولذلك قلنا: إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى الترجيح، بل إن كانا متواترين حكم بأن المتأخر ناسخ، ولا بد أن يكون أحدهما ناسخا، وإن كانا من أخبار الآحاد وعرفنا التاريخ أيضا حكمنا بالمتأخر، وإن لم نعرف فصدق الراوي مظنون، فنقدم الأقوى في نفوسنا، وكما لا يجوز التعارض والترجيح بين نصين قاطعين فكذلك في علتين قاطعتين، فلا يجوز أن ينصب الله علة قاطعة للتحريم في موضع وعلة قاطعة للتحليل في موضع وتدور بينهما مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس لأنه يؤدي إلى أن يجتمع قاطع على التحريم وقاطع على التحليل في فرع واحد في حق مجتهد واحد، وهو محال لا كالعلل المظنونة، لان الظنون تختلف بالإضافات فلا تجتمع في حق مجتهد واحد، فإن تقاوم ظنان أوجبنا التوقف على رأي، كما لو تعارض قاطعان، ومن أمر بالتخيير أجاب بأنه لا يجوز أن يرد نصان قاطعان بالتحريم والتحليل من غير تقدم وتأخر ويكون معناه التخيير لان اللفظ لا يحتمل التخيير فكذلك التعبد بالقياس مع التصريح بالتعليل تصريح بالنفي والاثبات لا يحتمل التخيير من حيث اللفظ فيكون متناقضا، أما الدليل الذي دل على تعبد المجتهد باتباع الظن فيصلح لان ينزل على اتباع أغلب الظنين وعند التعارض على التخيير بينهما، فإنه أمر بإتباع المصلحة وبالتشبيه وبالاستصحاب، فإذا تعارضا فكيفما فعل فهو مستصحب ومشبه ومتبع للمصلحة، أما القواطع فمتضادة ومتناقضة لا بد من أن تكون ناسخا أو منسوخا فلا تقبل الجمع، نعم: لو أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما، فإن قيل فهل يجوز أن يجتمع علم وظن؟ قلنا: لا، فإن الظن لو خالف العلم فهو محال، لان ما علم كيف يظن خلافه، وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم؟ وإن وافقه فإن أثر الظن يمحي بالكلية بالعلم فلا يؤثر معه.
المقدمة الثالثة: في دليل وجوب الترجيح. فإن قال قائل: لم رجحتم أحد الظنين، وكل