حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع، وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها، وإن لم يكن قد حصل الاخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها، ولا تعلق لتلك الأحاديث بها، فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا، ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى: * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * (المائدة: 6) وقس عليه ما في معناه، وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسألة، فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها: لا أدري، وكم توقف الشافعي رحمه الله، بل الصحابة في المسائل، فإذا لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري.
الركن الثالث المجتهد فيه: والمجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام، فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطئ آثم، وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطئ فيه آثما، ووجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل الاجتهاد، فهذه هي الأركان، فإذا صدر الاجتهاد التام من أهله وصادف محله كان ما أدى إليه الاجتهاد حقا وصوابا كما سيأتي، وقد ظن ظانون أن شرط المجتهد أن لا يكون نبيا، فلم يجوزوا الاجتهاد للنبي وأن شرط الاجتهاد أن لا يقع في زمن النبوة، فنرسم فيه مسألتين.
- مسألة (الاجتهاد في حياة النبي (ص)) اختلفوا في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمان الرسول عليه السلام، فمنعه قوم، وأجازه قوم، وقال قوم: يجوز للقضاة والولاة في غيبته لا في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، والذين جوزوا منهم من قال يجوز بالاذن، ومنهم من قال: يكفي سكوت رسول الله (ص)، ثم اختلف المجوزون في وقوعه، والمختار أن ذلك جائز في حضرته وغيبته، وأن يدل عليه بالاذن أو السكوت، لأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته ، ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة، وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه بأنه لو نص لهم على قاطع لبغوا وعصوا، فإن قيل، الاجتهاد مع النص محال، وتعرف الحكم بالنص بالوحي الصريح ممكن، فكيف يردهم إلى ورطة الظن؟ قلنا: فإذا قال لهم: أوحي إلي أن حكم الله تعالى عليكم ما أدى إليه اجتهادكم، وقد تعبدكم بالاجتهاد، فهذا نص، وقولهم: الاجتهاد مع النص محال مسلم، ولكن لم ينزل نص في الواقعة، وإمكان النص لا يضاد الاجتهاد وإنما يضاده نفس النص، كيف وقد تعبد النبي (ص) بالقضاء بقول الشهود حتى قال: إنكم لتختصمون