الواجبة، لأنه أحد أضداد الواجب، وكل ذلك قياس مذهب هؤلاء، لكنهم لم يقولوا به، فإن قيل: فالمباح هل يدخل تحت التكليف؟ وهل هو من التكاليف؟ قلنا: إن كان التكليف عبارة عن طلب ما فيه كلفة فليس ذلك في المباح، وإن أريد به ما عرف من جهة الشرع إطلاقه والاذن فيه فهو تكليف، وإن أريد به أنه الذي كلف اعتقاد كونه من الشرع فقد كلف ذلك، لكن لا بنفس الإباحة، بل بأصل الايمان، وقد سماه الأستاذ أبو إسحق رحمه الله تكليفا بهذا التأويل الأخير، وهو بعيد، مع أنه نزاع في اسم، فإن قيل: فهل المباح حسن؟ قلنا: إن كان الحسن عبارة عما لفاعله أن يفعله فهو حسن، وإن كان عبارة عما أمر بتعظيم فاعله والثناء عليه أو وجب اعتقاد استحقاقه للثناء والقبيح ما يجب اعتقاد استحقاق صاحبه للذم أو العقاب فليس المباح بحسن، واحترزنا باعتقاد الاستحقاق عن معاصي الأنبياء، فقد دل الدليل على وقوعها منهم، ولم يأمر بإهانتهم وذمهم، لكنا نعتقد استحقاقهم لذلك مع تفضل الله تعالى بإسقاط المستحق من حيث أمرنا بتعظيمهم والثناء عليهم. - مسألة (هل المباح من الشريعة؟) المباح من الشرع، وقد ذهب بعض المعتزلة إلى أنه ليس من الشرع، إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت قبل السمع، فمعنى إباحة الشرع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود السمع ولم يغير حكمه وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقي على النفي الأصلي، فعبر عنه بالمباح، وهذا له غور، وكشف الغطاء عنه أن الافعال ثلاثة أقسام: قسم بقي على الأصل، فلم يرد فيه من الشرع تعرض لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع، فينبغي أن يقال: استمر فيه ما كان ولم يتعرض له السمع فليس فيه حكم. وقسم صرح الشرع فيه بالتخيير وقال: إن شئتم فافعلوه، وإن شئتم فاتركوه، فهذا خطاب، والحكم لا معنى له إلا الخطاب، ولا سبيل إلى إنكاره، وقد ورد. وقسم ثالث لم يرد فيه خطاب بالتخيير، لكن دل دليل السمع على أنه نفي الحرج عن فعله وتركه، فقد عرف بدليل السمع، ولولا هذا الدليل لكان يعرف بدليل العقل نفي الحرج عن فاعله، وبقاؤه على النفي الأصلي، فهذا فيه نظر إذ اجتمع عليه دليل العقل والسمع، وفي الطرفين الآخرين أيضا نظر، إذ يمكن أن يقال:
قول الشارع إن شئت فقم، وإن شئت فاقعد ليس بتجديد حكم، هو تقرير للحكم السابق، ومعنى تقريره أنه ليس يغير أمره بل يتركه على ما هو عليه، فليس ذلك أمرا حادثا بالشرع، فلا يكون شرعيا، وأما الطرف الآخر وهو الذي لم يرد فيه خطاب ولا دليل، فيمكن أيضا إنكاره، بأن يقال: قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك، فالمكلف فيه مخير، وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الافعال، فلا يبقى فعل إلا مدلولا عليه من جهة الشرع، فتكون إباحته من الشرع، وإلا عورض أن الإباحة من جهة الشرع تقرير لا تغيير، وليس مع التقرير تجديد أمر، بل بيان أنه لم يجدد فيه أمرا، بل كف عن التعرض له، وسيأتي لهذا تحقيق في مسألة إقامة الدليل على النافي. - مسألة (التفريق بين المندوب والمباح المندوب مأمور به، وإن لم يكن المباح مأمورا به، لان الامر اقتضاء وطلب، والمباح غير مقتضى، أما المندوب فإنه مقتضى لكن مع إسقاط الذم عن تاركه، والواجب مقتضى، لكن مع ذم تاركه إذا تركه مطلقا، أو تركه وبدله، وقال قوم: المندوب غير داخل تحت