لكلام النفس، وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة أصناف، وتحزبوا على ثلاث مراتب:
الحزب الأول: قالوا: لا معنى للامر إلا حرف وصوت، وهو مثل قوله: إفعل، أو ما يفيد معناه، وإليه ذهب البلخي من المعتزلة، وزعم أن قوله: إفعل، أمر لذاته وجنسه، وأنه لا يتصور أن لا يكون أمرا، فقيل له: هذه الصيغة قد تصدر للتهديد، كقوله: اعملوا ما شئتم، وقد تصدر للإباحة، كقوله: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (المائدة: 2) فقال: ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس، وهو مناكرة للحس، فلما استشعر ضعف هذه المجاحدة اعترف.
الحزب الثاني: وفيهم جماعة من الفقهاء يقولون: إن قوله: أفعل ليس أمرا بمجرد صيغته ولذاته، بل لصيغته وتجرده عن القرائن الصارفة له عن جهة الامر إلى التهديد والإباحة وغيره، وزعموا أنه لو صدر من النائم والمجنون أيضا لم يكن أمرا للقرينة، وهذا بعارضه قوله من قال أنه لغير الامر، إلا إذا صرفته قرينة إلى معنى الامر، لأنه إذا سلم إطلاق العرب هذه الصيغة على أوجه مختلفة فحوالة البعض على الصيغة، وحوالة الباقي على القرينة تحكم مجرد لا يعلم بضرورة العقل، ولا بنظر ولا بنقل متواتر من أهل اللغة، فيجب التوقف فيه، فعند ذلك اعترف.
الحزب الثالث: من محققي المعتزلة: أنه ليس أمر الصيغة وذاته ولا لكونه مجردا عن القرائن مع الصيغة، بل يصير أمرا بثلاث إرادات، إرادة المأمور به، وإرادة إحداث الصيغة، وإرادة الدلالة بالصيغة على الامر دون الإباحة والتهديد، وقال بعضهم: تكفي إرادة واحدة وهي إرادة المأمور، وهذا فاسد من أوجه: الأول: أنه يلزم أن يكون قوله تعالى:
* (ادخلوها بسلام آمنين) * (الحجر: 64) وقوله: * (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) * (الحاقة: 42) أمرا لأهل الجنة، ولا يمكن تحقيق الامر إلا بوعد ووعيد، فتكون الدار الآخرة دار تكليف ومحنة، وهو خلاف الاجماع. وقد ركب ابن الجبائي هذا وقال: إن الله مريد دخولهم الجنة، وكاره امتناعهم، إذ يتعذر به إيصال الثواب إليهم وهذا ظلم والله سبحانه يكره الظلم، فإن قيل: قد وجدت إرادة الصيغة وإرادة المأمور به، لكن لم توجد إرادة الدلالة به على الامر؟ قلنا: وهل للامر معنى وراء الصيغة حتى تراه الدلالة عليه أم لا، فإن كان له معنى فما هو وهل له حقيقة سوى ما يقول بالنفس من اقتضاء الطاعة، وإن لم يكن سوى الصيغة، فلا معنى لاعتبار هذه الإرادة الثالثة. الوجه الثاني: أنه يلزمهم أن يكون القائل لنفسه:
إفعل، مع إرادة الفعل من نفسه آمرا لنفسه، وهو محال بالاتفاق، فإن الامر هو المقتضى، وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل، بل المقتضي دواعيه وأغراضه، ولهذا لو قال لنفسه: إفعل، وسكت وجد هاهنا إرادة الصيغة وإرادة المأمور به، وليس بأمر، فدل أن حقيقته اقتضاء الطاعة وهو معنى قائم بالنفس من ضرورته أن يتعلق بغيره، وهل يشترط أن لا يكون ذلك الغير فوقه في الرتبة فيه كلام سبق، فإن قيل: وما الدليل على قيام معنى بالنفس سوى إرادة الفعل المأمور به، فإن السيد لا يجد من نفسه عند قوله لعبده اسقني أو أسرج الدابة إلا إرادة السقي