شك في عملهم مع جواز التخصيص بل مع جواز نسخ لم يبلغهم كما حكموا بصحة المخابرة بدليل عموم إحلال البيع، حتى روى رافع بن خديج النهي عنها. الثاني: أنه بعد طول الخوض لا يحصل اليقين، بل إن سلم إنه لا يشذ المخصص عن جميع العلماء، فمن أين لقي جميع العلماء، ومن أين عرف أنه بلغه كلام جميعهم، فلعل منهم من تنبه لدليله وما كتبه في تصنيفه ولا نقل عنه، وإن أورده في تصنيفه فلعله لم يبلغه، وعلى الجملة لا يظن بالصحابة فعل المخابرة مع اليقين بانتفاء النهي: وكان النهي حاصلا ولم يبلغهم، بل كان الحاصل إما ظنا وإما سكون نفس. المسلك الثاني: قال القاضي: لا يبعد أن يدعي المجتهد اليقين وإن لم يدع الإحاطة بجميع المدارك، إذ يقول: لو كان الحكم خاصا لنصب الله تعالى عليه دليلا للمكلفين، ولبلغهم ذلك وما خفي عليهم، وهذا أيضا من الطراز الأول، فإنه: لو اجتمعت الأمة على شئ أمكن القطع بأن لا دليل يخالفه إذ يستحيل إجماعهم على الخطأ، أما في مسألة الخلاف كيف يتصور ذلك والمختار عندنا، أن تيقن الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط، وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز، بل عليه تحصيل علم وظن باستقصاء البحث، أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه، وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه، فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع، ويحس من نفسه بالعجز يقينا فيكون العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا، وانتفاء الدليل في نفسه مظنون، وهو الظن بالصحابة في المخابرة ونظائرها، وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر.
الباب الخامس في الاستثناء والشرط والتقييد بعد الاطلاق الكلام في الاستثناء والنظر في حقيقته وحده، ثم في شرطه، ثم في تعقب الجمل المترادفة، فهذه ثلاثة فصول.
الفصل الأول في حقيقة الاستثناء: وصيغه معرفة، وهي: إلا وعدا، وحاشا وسوى، وما جرى مجراها، وأم الباب: لا، وحده أنه قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول، ففيه احتراز عن أدلة التخصيص، لأنها قد لا تكون قولا وتكون فعلا وقرينة ودليل عقل فإن كان قولا فلا تنحصر صيغه، واحترزنا بقولنا ذو صيغ محصورة: عن قوله: رأيت المؤمنين ولم أر زيدا، فإن العرب لا تسميه استثناء وإن أفاد ما يفيده قوله إلا زيدا، ويفارق الاستثناء التخصيص في أنه يشترط اتصاله وأنه يتطرق إلى الظاهر والنص جميعا، إذ يجوز أن يقول: عشرة إلا ثلاثة: كما يقول: اقتلوا المشركين إلا زيدا والتخصيص لا يتطرق إلى النص أصلا، وفيه احتراز عن النسخ إذ هو رفع وقطع، وفرق بين النسخ والاستثناء والتخصيص أن النسخ رفع لما دخل تحت اللفظ والاستثناء يدخل على الكلام، فيمنع أن يدخل تحت اللفظ ما كان يدخل لولاه، والتخصيص يبين كون اللفظ قاصرا عن البعض فالنسخ قطع ورفع، والاستثناء رفع، والتخصيص بيان، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق في فصل الشرط إن شاء الله.