عندنا فليس المراد بالطلب الذي هو معنى الامر إرادة وتشوقا، لان المعاصي عندنا مرادة وهي غير مأمور بها، والطاعات مأمور بها، وقد لا تكون مرادة، فإن ما أراد الله واقع، والتشوق على الله محال، وإنما معناه اقتضاء فعله لمصلحة العبد، ولكنه يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال أو الترك لما يخالفه لطفا به في الاستعداد والانحراف عن الفساد، وهذا لطف متصور من الله تعالى، ويتصور أيضا من السيد أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه، مع عزمه على نسخ الامر قبل الامتثال، امتحانا للعبد واستصلاحا له، وكل أمر مقيد بشرط أن لا ينسخ، وكوكالة مقيدة بشرط أن لا يعزل الوكيل، وقوله: وكلتك ببيع العبد غدا، مع العلم بأنه سيعتق العبد قبل الغد وكالة في الحال يقصد بها استمالة الوكيل مثلا وامتحانه في إظهار الاستبشار بأمره أو الكراهية، فكل ذلك معقول لهذه الفائدة، وليس تحت الامر إلا أنه اقتضاء من هذا الجنس والله أعلم.
لقول في صيغة النهي اعلم أن ما ذكرناه من مسائل الأوامر تتضح به أحكام النواهي، إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس، فلا حاجة إلى التكرار، ولكنا نتعرض لمسائل لابد من افرادها بالكلام.
- مسألة (هل النهي يقتضي الفساد) اختلفوا في أن النهي عن البيع والنكاح والتصرفات المفيدة للأحكام هل يقتضي فسادها؟ فذهب الجماهير إلى أنه يقتضي فسادها، وذهب قوم إلى أنه إن كان نهيا عنه لعينه دل على الفساد، وإن كان لغيره فلا، والمختار أنه لا يقتضي الفساد، وبيانه أنا نعني بالفساد تخلف الاحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام، ولو صرح الشارع وقال: حرمت عليك استيلاد جارية الابن ونهيتك عنه لعينه، لكن إن فعلت ملكت الجارية، ونهيتك عن الطلاق في الحيض لعينه لكن إن فعلت بانت زوجتك، ونهيتك عن إزالة النجاسة عن الثوب بالماء المغصوب لكن إن فعلت طهر الثوب، ونهيتك عن ذبح شاة الغير بسكين الغير من غير إذن، لكن إن فعلت حلت الذبيحة، فشئ من هذا ليس يمتنع ولا يتناقض، بخلاف قوله: حرمت عليك الطلاق وأمرتك به، أو أبحثه لك، وحرمت عليك الاستيلاد لجارية الابن وأوجبته عليك، فإن ذلك متناقض لا يعقل، لان التحريم يضاد الايجاب ولا يضاده كون المحرم منصوبا علامة على حصول الملك والحل وسائر الأحكام، إذ يتناقض أن يقول: حرمت الزنا وأبحته، ولا يتناقض أن يقول: حرمت الزنا وجعلت الفعل الحرام في عينه سببا لحصول الملك في العوضين، فإن شرط التحريم التعرض لعقاب الآخرة فقط دون تخلف الثمرات والاحكام عنه، فإذا ثبت هذا فقوله: لا تبع، ولا تطلق، ولا تنكح لو دل على تخلف الاحكام وهو المراد بالفساد فلا يخلو إما أن يدل من حيث اللغة أو من حيث الشرع، ومحال أن يدل من حيث اللغة، لان العرب قد تنهى عن الطاعات وعن الأسباب المشروعة وتعتقد ذلك نهيا حقيقيا دالا على أن المنهي ينبغي أن لا يوجد، أما الاحكام فإنها شرعية لا يناسبها اللفظ من حيث وضع اللسان، إذ يعقل أن يقول العربي: هذا العقد الذي يفيد الملك والاحكام إياك أن تفعله وتقدم عليه، ولو صرح به الشارع أيضا لكان منتظما مفهوما، أما من حيث الشرع فلو قام دليل على أن النهي