أو اقتضاء الترك، أو التخيير بين الفعل والترك، فإن ورد باقتضاء الفعل فهو أمر، فإما أن يقترن به الاشعار بعقاب على الترك فيكون واجبا، ولا يقترن فيكون ندبا والذي ورد باقتضاء الترك فإن أشعر بالعقاب على الفعل فحظر وإلا فكراهية، وإن ورد بالتخيير فهو مباح. ولا بد من ذكر حد كل واحد على الرسم: فأما حد الواجب: فقد ذكرنا طرفا منه في مقدمة الكتاب، ونذكر الآن ما قيل فيه. فقال قوم: إنه الذي يعاقب على تركه، فاعترض عليه بأن الواجب قد يعفي عن العقوبة على تركه، ولا يخرج عن كونه واجبا، لان الوجوب ناجز والعقاب منتظر، وقيل: ما توعد بالعقاب على تركه، فاعترض عليه بأنه لو توعد لوجب تحقيق الوعيد، فإن كلام الله تعالى صدق، ويتصور أن يعفي عنه ولا يعاقب: وقيل: ما يخاف العقاب على تركه، وذلك يبطل بالمشكوك في تحريمه ووجوبه، فإنه ليس بواجب، ويخاف العقاب على تركه، وقال القاضي أبو بكر رحمه الله: الأولى في حده أن يقال: هو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه ما، لان الذم أمر ناجز، والعقوبة مشكوك فيها، وقوله: بوجه ما، قصد أن يشمل الواجب المخير، فإنه يلام على تركه مع بدله، والواجب الموسع، فإنه يلام على تركه مع ترك العزم على امتثاله، فإن قيل: فهل من فرق بين الواجب والفرض؟ قلنا: لا فرق عندنا بينهما بل هما من الألفاظ المترادفة، كالحتم واللازم، وأصحاب أبي حنيفة اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه، وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا، ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعاني، وقد قال القاضي: لو أوجب الله علينا شيئا ولم يتوعد بعقاب على تركه لوجب، فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالعقاب، وهذا فيه نظر، لان ما استوى فعله وتركه في حقنا فلا معنى لوصفه بالوجوب، إذ لا نعقل وجوبا إلا بأن يترجح فعله على تركه بالإضافة إلى أغراضنا، فإذا انتفى الترجيح فلا معنى للوجوب أصلا. وإذا عرفت حد الواجب فالمحظور في مقابلته ولا يخفى حده. وأما حد المباح فقد قيل فيه: ما كان تركه وفعله سيين، ويبطل بفعل الطفل والمجنون والبهيمة، ويبطل بفعل الله تعالى، وكثير من أفعاله يساوي الترك في حقنا، وهما في حق الله تعالى أبدا سيان، وكذلك الافعال قبل ورود الشرع تساوي الترك، ولا يسمى شئ من ذلك مباحا، بل حده أنه الذي ورد الاذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله ومدحه ولا بذم تاركه، ومدحه، ويمكن أن يحد بأنه الذي عرف الشرع أنه لا ضرر عليه في تركه ولا فعله، ولا نفع من حيث فعله وتركه احترازا عما إذا ترك المباح بمعصية، فإنه يتضرر، لا من حيث ترك المباح، بل من يحث ارتكاب المعصية. وأما حد الندب فقيل فيه: إنه الذي فعله خير من تركه من غير ذم يلحق بتركه، ويرد عليه الاكل قبل ورود الشرع، فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة وبقاء الحياة، وقالت القدرية: هو الذي إذا فعله فاعله استحق المدح ولا يستحق الذم بتركه، ويرد عليه فعل الله تعالى، فإنه لا يسمى ندبا مع أنه يمدح على كل فعل ولا يذم، فالأصح في حده أنه المأمور به الذي لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى بدل احترازا عن الواجب المخير والموسع. وأما المكروه: فهو لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين معاني: أحدها: المحظور، فكثيرا ما يقولا لشافعي رحمه الله: وأكره كذا،
(٥٣)