جلال الله تعالى، بل إن فتح باب الأوهام، فربما يخطر له أن الله يعاقبه لو شكره ونظر فيه لأنه أمده بأسباب النعم، فلعله خلقه ليترفه وليتمتع فإتعابه نفسه تصرف في مملكته بغير إذنه، ولهم شبهتان: إحداهما: قولهم إتفاق العقلاء على حسن الشكر، وقبح الكفر ان لا سبيل إلى إنكاره، وذلك مسلم، لكن في حقهم، لانهم يهتزون ويرتاحون للشكر ويغتمون بالكفران، والرب تعالى يستوي في حقه الأمران، فالمعصية والطاعة في حقه سيان، ويشهد له أمران، أحدهما: أن المتقرب إلى السلطان بتحريك أنملته في زاوية بيته وحجرته مستهين بنفسه وعبادة العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة. والثاني: أن من تصدق عليه السلطان بكسرة خبز في مخمصة فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الاشهاد بشكره، كان ذلك بالنسبة إلى الملك قبيحا وافتضاحا، وجملة نعم الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى خزائن الملك، لان خزانة الملك تفنى بأمثال تلك الكسرة لتناهيها ومقدورات الله تعالى لا تتناهى بأضعاف ما أفاضه على عباده. الشبهة الثانية: قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل فإنهم إذا أظهروا المعجزات قال لهم المدعوون لا يجب علينا النظر في معجزاتكم إلا بالشرع، ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزاتكم فثبتوا علينا وجوب النظر حتى ننظر، ولا نقدر على ذلك ما لم ننظر فيؤدي إلى الدور والجواب من وجهين: أحدهما: من حيث التحقيق، وهو أنكم غلطتم في ظنكم بنا أنا نقول استقرار الشرع موقوف على نظر الناظرين، بل إذا بعث الرسول وأيد بمعجزته بحيث يحصل بها إمكان المعرفة، لو نظر العاقل فيها فقد ثبت الشرع، واستقر ورود الخطاب بإيجاب النظر، إذ لا معنى للواجب إلا ما ترجح فعله على تركه بدفع ضرر معلوم أو موهوم، فمعنى الوجوب رجحان الفعل على الترك، والموجب هو المرجح، والله تعالى هو المرجح، وهو الذي عرف رسوله، وأمره أن يعرف الناس أن الكفر سم مهلك، والمعصية داء والطاعة شفاء، فالمرجح هو الله تعالى، والرسول هو المخبر، والمعجزة سبب يمكن العاقل من التوصل إلى معرفة الترجيح، والعقل هو الآلة التي بها يعرف صدق المخبر عن الترجيح، والطبع المجبول على التألم بالعذاب، والتلذذ بالثواب هو الباعث المستحث على الحذر من الضرر، وبعد ورود الخطاب حصل الايجاب الذي هو الترجيح، وبالتأييد بالمعجزة حصل الامكان في حق العاقل الناظر، إذ قدر به على معرفة الرجحان، فقوله: لا أنظر ما لم أعرف ولا أعرف ما لم أنظر، مثاله ما لو قال الأب لولده: التفت، فإن وراءك سبعا عاديا هوذا يهجم عليك إن غفلت عنه فيقول: لا ألتفت ما لم أعرف وجوب الالتفات، ولا يجب الالتفات ما لم أعرف السبع ولا أعرف السبع ما لم ألتفت، فيقول له: لا جرم تهلك بترك الالتفات، وأنت غير معذور لأنك قادر على الالتفات وترك العناد، فكذلك النبي يقول: الموت وراءك ودونه الهوام المؤذية والعذاب الأليم إن تركت الايمان والطاعة، وتعرف ذلك بأدنى نظر في معجزتي، فإن نظرت وأطعت نجوت، وإن غفلت وأعرضت فالله تعالى غني عنك وعن عملك، وإنما أضررت بنفسك، فهذا أمر معقول لا تناقض فيه. الجواب الثاني: المقابلة بمذهبهم، فإنهم قضوا بأن العقل هو الموجب، وليس يوجب بجوهره إيجابا ضروريا لا ينفك منه أحد، إذ لو كان
(٥٠)