كاذبتان، والأولى منهما ربما وقع لك الانس بتكذيبها، لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة لاثبات موجود، ليس في جهة والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك لأدلتها، وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلاء والملاء غير ممكن لان الخلاء باطل بالبراهين القاطعة، إذ لا معنى له، والملاء متناه بأدلة قاطعة، إذ يستحيل وجود أجسام لا نهاية لها وإذا ثبت هذان الأصلان علم أنه لا خلاء ولا ملاء وراء العالم، وهذه القضايا مع أنها وهمية فهي في النفس لا تتميز عن الأوليات القطعية، مثل قولك لا يكون شخص في مكانين، بل يشهد به أول الفطرة، كما يشهد بالأوليات العقلية، وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعا هو صادق بل الصادق ما يشهد به قوة العقل فقط، ومداركه الخمسة المذكورة، وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل، ثم بعد معرفة الدليل أيضا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها فإن قلت فبماذا أميز بينها وبين الصادقة، والفطرة قاطعة بالكل، ومتى يحصل الأمان منها فاعلم أن هذه ورطة تاه فيها جماعة، فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيد العلم اليقين، فقال بعضهم:
طلب اليقين غير ممكن، وقالوا بتكافؤ الأدلة، وادعوا اليقين بتكافؤ الأدلة، وقال بعضهم: لا تيقن أيضا بتكافؤ الأدلة، بما هو أيضا في محل التوقف، وكشف الغطاء عن هذه الورطة يستدعي تطويلا، فلا نشتغل به، ونفيدك الآن طريقين نستعين بهما في تكذيب الوهم الأول جملي وهو أنك لا تشك في وجود الوهم، والقدرة والعلم والإرادة، وهذه الصفات ليست من النظريات، ولو عرضت على الوهم نفس الوهم لا نكره، فإنه يطلب له سمكا ومقدارا ولونا، فإذا لم يجده أباه، ولو كلفت الوهم أن يتأمل ذات القدرة والعلم والإرادة لصور لكل واحد قدرا ومكانا مفردا، ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد أو جسم واحد لقدر بعضها منطبقا على البعض، كأنه ستر رقيق مرسل على وجهه، ولم يقدر على اتحاد البعض بالبعض بأسره فإنه ربما يشاهد الأجسام، ويراها متميزة في الوضع، فيقضي في كل شيئين، بأن أحدهما متميز في الوضع عن الآخر. الطريق الثاني: وهو معيار في آحاد المسائل: وهو أن نعلم أن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة، فإنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين، بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس، وإنما تنازع فيما وراء المحسوسات، لأنها تمثل غير المحسوسات بالمحسوسات إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات، فحيلة العقل مع الوهم في أن يثق بكذبه مهما نظر في غير محسوس، أن يأخذ مقدمات يقينية ليساعده الوهم عليها، وينظمها نظم البرهان الذي ذكرناه، فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق في الأمثلة، وكما في الهندسيات، فتجد ذلك ميزانا وحاكما بينه وبينه، فإذا رأى الوهم قد زاغ عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمها وعلى كونها نتيجة علم أن ذلك من قصور في طباعه عن إدراك مثل هذا الشئ الخارج عن المحسوسات، فاكتف بهذا القدر، فإن تمام الايضاح فيه تطويل.
السابع: المشهورات: وهي آراء محمودة يوجب التصديق بها إما شهادة الكل أو الأكثر، أو شهادة جماهير الأفاضل، كقولك الكذب قبيح، وإيلام البرئ قبيح، و كفران النعم قبيح وشكر المنعم وإنقاذ الهلكى حسن، وهذه قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة فلا يجوز أن يعول