أحد، ولا ينبه على حسنه في بعض الأحوال، خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن الكذب، فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الأحوال، والسماع في الصغر كالنقش في الحجر، فينغرس في النفس، ويحن إلى التصديق به مطلقا، وهو صدق، لكن لا على الاطلاق، بل في أكثر الأحوال، وإذا لم يكن في ذكره إلا أكثر الأحوال فهو بالإضافة إليه كل الأحوال، فلذلك يعتقده مطلقا.
الغلطة الثالثة: سببها سبق الوهم إلى العكس، فإن ما يرى مقرون بالشئ يظن أن الشئ أيضا لا محالة مقرون به مطلقا، ولا يدري أن الأخص أبدا مقرون بالأعم والأعم لا يلزم أن يكون مقرونا بالأخص، ومثاله: نفرة نفس السليم، وهو الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش اللون، لأنه وجد الأذى مقرونا بهذه الصورة، فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالأذى، وكذلك تنفر النفس عن العسل إذا شبه بالعذرة، لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونا بالرطب الأصفر، فتوهم أن الرطب الأصفر مقرون به الاستقذار، ويغلب الوهم حتى يتعذر الاكل وإن حكم العقل بكذب الوهم، لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام، وإن كانت كاذبة حتى أن الطبع لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا ملازم للاسم، ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسئ الاعتقاد فيمن نسبته إليه وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه، وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها، وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس، ولذلك ينفر طبع الانسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك، ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه. فإذا تنبهت لهذه المثارات فنرجع ونقول: إنما يترجح الانقاذ على الاهمال في حق من لا يعتقد الشرائع لدفع الأذى الذي يلحق الانسان من رقة الجنسية، وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه، وسببه أن الانسان يقدر نفسه في تلك البلية، ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه، فيستقبحه منه بمخالفة غرضه، فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه، فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم.
فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره، ولو تصور فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه، فإنه فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ، فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا، فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم، فيبقى ميل النفس، وترجح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل المبرقش، وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون بها بكل حال، كما أنه لما رأى الأذى مقرونا بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الأذى فنفر عن المقرون بالأذى، فالمقرون باللذيذ لذيذ، والمقرون بالمكروه مكروه، بل الانسان إذا جالس من عشقه في مكان، فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره، ولذلك قال الشاعر:
أمر على الديار ديار ليلى * أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما تلك الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن الديارا