وعلما بأن ذلك كان بلاء له من الله عز وجل ليزيد في درجته عنده (إذ أنتم جاهلون) نفى عنهم العلم وأثبت لهم صفة الجهل، لأنهم لم يعملوا بما يقتضيه العلم - وقيل إنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم وتخفيف الأمر عليهم، فكأنه قال: إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم وقصور معارفكم عن عاقبته، وما يترتب عليه، أو أراد أنهم عند ذلك في أوان الصبا وزمان الصغر، اعتذارا لهم ودفعا لما يدهمهم من الخجل والحيرة مع علمه وعلمهم بأنهم كانوا في ذلك الوقت كبارا (قالوا أإنك لأنت يوسف) قرأ ابن كثير " إنك " على الخبر بدون استفهام. وقرأ الباقون على الاستفهام التقريري، وكان ذلك منهم على طريق التعجب والاستغراب: قيل سبب معرفتهم له بمجرد قوله لهم (ما فعلتم بيوسف وأخيه) أنهم لما قال لهم ذلك تنبهوا وفهموا أنه لا يخاطبهم بمثل هذا إلا هو، وقيل إنه لما قال لهم بهذه المقالة وضع التاج عن رأسه فعرفوه، وقيل إنه تبسم فعرفوا ثناياه (قال أنا يوسف وهذا أخي) أجابهم بالاعتراف بما سألوه عنه، قال ابن الأنباري: أظهر الاسم فقال أنا يوسف ولم يقل أنا هو. تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته. كأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله.
فاكتفى باظهار الاسم عن هذه المعاني. وقال: وهذا أخي مع كونهم يعرفونه ولا ينكرونه. لأن قصده وهذا أخي المظلوم كظلمي (قد من الله علينا) بالخلاص عما ابتلينا به، وقيل من الله علينا بكل خير في الدنيا والآخرة.
وقيل بالجمع بيننا بعد التفرق. ولا مانع من إرادة جميع ذلك (إنه من يتق ويصبر) قرأ الجمهور بالجزم على أن من شرطية. وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في يتقي. كما في قول الشاعر:
ألم يأتيك والأنباء تنمى * بما لاقت لبون بنى زياد وقيل إنه جعل من موصولة لا شرطية، وهو بعيد. والمعنى: إنه من يفعل التقوى أو يفعل ما يقيه عن الذنوب ويصبر على المصائب (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) على العموم، فيدخل فيه ما يفيده السياق دخولا أوليا، وجاء بالظاهر، وكان المقام مقام المضمر: أي أجرهم للدلالة على أن الموصوفين بالتقوى موصوفون بصفة الإحسان (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا) أي لقد اختارك وفضلك علينا بما خصك به من صفات الكمال. وهذا اعتراف منهم بفضله وعظيم قدره، ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا أنبياء. فإن درج الأنبياء متفاوتة، قال الله تعالى - تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - (وإن كنا لخاطئين) أي وإن الشأن ذلك. قال أبو عبيدة: خطئ وأخطأ بمعنى واحد. وقال الأزهري: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره. ومنه قولهم: المجتهد يخطئ ويصيب، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. قالوا هذه المقالة المتضمنة للاعتراف بالخطأ والذنب استجلابا لعفوه واستجذابا لصفحه (قال لا تثريب عليكم) التثريب التعيير والتوبيخ: أي لا تعيير ولا توبيخ. ولا لوم عليكم. قال الأصمعي ثربت عليه: قبحت عليه فعله. وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوة. ولكم عندي الصلح والعفو، وأصل التثريب الإفساد، وهى لغة أهل الحجاز. وقال ابن الأنباري: معناه قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب. قال ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه، وأصل التثريب من الثرب، وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش، ومعناه إزالة التثريب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع وانتصاب اليوم بالتثريب: أي لا أثرب عليكم أو منتصب بالعامل المقدر في عليكم وهو مستقر أو ثابت أو نحوهما أي لا تثريب مستقر أو ثابت عليكم. وقد جوز الأخفش الوقف على عليكم. فيكون اليوم متعلق بالفعل الذي بعده. وقد ذكر مثل هذا ابن الأنباري، ثم دعا لهم بقوله (يغفر الله لكم) على تقدير الوقف على اليوم،