لما فرغ سبحانه من حكاية شبه القوم في النبوات حكى شبهتهم في أمر المعاد فقال (فقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا) والاستفهام للاستنكار والاستبعاد. وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت عظامه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم، واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها، ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع، فأجاب سبحانه عنهم بأن إعادة بدن الميت إلى حال الحياة أمر ممكن، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شئ من الحياة ومن رطوبة الحي كالحجارة والحديد. فهو كقول القائل: أتطمع في وأنا ابن فلان، فيقول كن ابن السلطان أو ابن من شئت فسأطلب منك حقي. والرفات: ما تكسر وبلى من كل شئ كالفتات والحطام والرضاض قاله أبو عبيدة والكسائي والفراء والأخفش، تقول منه: رفت الشئ رفتا: أي حطم فهو مرفوت وقيل الرفات الغبار، وقيل التراب (أإنا لمبعوثون خلقا جديدا) كرر الاستفهام الدال على الاستنكار والاستبعاد تأكيدا وتقريرا، والعامل في إذا هو ما دل عليه لمبعوثون، لا هو نفسه. لأن ما بعد إن والهمزة واللام لا يعمل فيما قبلها، والتقدير: أإذا كنا عظاما ورفاتا نبعث أإنا لمبعوثون. وانتصاب خلقا على المصدرية من غير لفظه، أو على الحال: أي مخلوقين، وجديدا صفة له (قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا) آخر (مما يكبر في صدوركم) قال ابن جرير: معناه إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم على ذلك، وقال علي بن عيسى: معناه إنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم. إلا أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ في الإلزام، وقيل معناه: لو كنتم حجارة أو حديدا لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم قال النحاس: وهذا قول حسن، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة أو حديدا، وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث، فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة. قلت: وعلى هذا الوجه قررنا جواب الشبهة قبل هذا (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) أي يعظم عندكم مما هو أكبر من الحجارة والحديد مباينة للحياة فإنكم مبعوثون لا محالة، وقيل المراد به السماوات والأرض والجبال لعظمها في النفوس. وقال جماعة من الصحابة والتابعين: المراد به الموت، لأنه ليس شئ أكبر في نفس ابن آدم منه. والمعنى: لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم بعثكم، ولا يخفى ما في هذا من البعد. فإن معنى الآية الترقي من الحجارة إلى الحديد، ثم من الحديد إلى ما هو أكبر في صدور القوم منه، والموت نفسه ليس بشئ يعقل ويحس حتى يقع الترقي من الحديد إليه (فسيقولون من يعيدنا) إذا كنا عظاما ورفاتا، أو حجارة أو حديدا مع ما بين الحالتين من التفاوت (قل الذي فطركم أول مرة) أي يعيدكم الذي خلقكم واخترعكم عند ابتداء خلقكم من غير مثال سابق ولا صورة متقدمة (فسينغضون إليك رؤوسهم) أي يحركونها استهزاء، يقال نغض رأسه ينغض وينغض وينغض نغضا ونغوضا: أي تحرك، وأنغض رأسه حركه كالمتعجب، ومنه قول الراجز:
* أنغض نحوي رأسه وأقنعا * وقول الراجز الآخر: * ونغضت من هرم أسنانها * وقال آخر: * لما رأتني أنغضت لي رأسها * (ويقولون متى هو) أي البعث والإعادة استهزاء منهم وسخرية (قل عسى أن يكون قريبا) أي هو قريب، لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع، ومثله - وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا - وكل ما هو آت قريب (يوم يدعوكم) الظرف منتصب بفعل مضمر:
أي أذكر، أو بدل من قريبا، أو التقدير: يوم يدعوكم كان ما كان، الدعاء النداء إلى المحشر بكلام يسمعه الخلائق، وقيل هو الصيحة التي تسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر (فتستجيبون بحمده) أي منقادين له حامدين لما فعله بكم فهو في محل نصب على الحال. وقيل المعنى: فتستجيبون والحمد لله كما قال الشاعر: