أسروا على لغة من يجوز الجمع بين فاعلين: كقولهم أكلوني البراغيث، ذكر ذلك الأخفش، ومثله - ثم عموا وصموا كثير منهم - ومنه قول الشاعر:
* فاهتدين البغال للأغراض * وقول الآخر: ولكن دنا بي أبوه وأمه * بحوران يعصرن السليط أقاربه وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير: أي والذين ظلموا أسروا النجوى. قال أبو عبيدة: أسروا هنا من الأضداد: يحتمل أن يكون بمعنى أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون بمعنى أظهروه وأعلنوه (هل هذا إلا بشر مثلكم) هذه الجملة بتقدير القول قبلها: أي قالوا هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشئ؟ ويجوز أن تكون هذه الجملة بدلا من النجوى، وهل بمعنى النفي: أي وأسروا هذا الحديث، والهمزة في (أفتأتون السحر) للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، وجملة (وأنتم تبصرون) في محل نصب على الحال. والمعنى: إذا كان بشرا مثلكم، وكان الذي جاء به سحرا، فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ما تناجوا به، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال (قل ربى يعلم القول في السماء والأرض) أي لا يخفى عليه شئ مما يقال فيهما، وفى مصاحف أهل الكوفة " قال ربى " أي قال محمد: ربي يعلم القول، فهو عالم بما تناجيتم به. قيل القراءة الأولى أولى، لأنهم أسروا هذا القول، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا. قال النحاس: والقراءتان صحيحتان، وهما بمنزلة آيتين (وهو السميع) لكل ما يسمع (العليم) بكل معلوم، فيدخل في ذلك ما أسروا دخولا أوليا (بل قالوا أضغاث أحلام) قال الزجاج: أي قالوا الذي تأتي به أضغاث أحلام. قال القتيبي: أضغاث الأحلام الرؤيا الكاذبة. وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل، وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا القول. ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم: أضغاث أحلام، قال (بل افتراه) أي بل قالوا افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل. ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا (بل هو شاعر) وما أتى به من جنس الشعر، وفى هذا الاضطراب منهم، والتلون والتردد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به، لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه، أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان. ثم بعد هذا كله، قالوا (فليأتنا بآية) وهذا جواب شرط محذوف: أي إن لم يكن كما قلنا: فليأتنا بآية (كما أرسل الأولون) أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها، وصالح بالناقة، ومحل الكاف الجر صفة لآية، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك، كما قال - ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون - قال الزجاج: اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال، فقال الله مجيبا لهم (ما آمنت قبلهم من قرية) أي قبل مشركي مكة: ومعنى من قرية من أهل قرية، ووصف القرية بقوله (أهلكناها) أي أهلكنا أهلها، أو أهلكناها بإهلاك أهلها، وفيه بيان أن سنة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه، ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة، ومن في من قرية مزيدة للتأكيد. والمعنى: ما آمنت قربة من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء، فكيف نعطيهم ما يقترحون، وهم أسوة من قبلهم، والهمزة في (أفهم يؤمنون) للتقريع