فتح القدير - الشوكاني - ج ٣ - الصفحة ٢٩٦
أو يأتيهم العذاب مستقبلا، وانتصابه على الحال. فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته (وما نرسل المرسلين) من رسلنا إلى الأمم (إلا) حال كونهم (مبشرين) للمؤمنين (ومنذرين) للكافرين، فالاستثناء مفرغ من أعم العام، وقد تقدم تفسير هذا (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) أي ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه وأصل الدحض الزلق: يقال دحضت رجله: أي زلقت تدحض دحضا، ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت، ودحضت حجته دحوضا بطلت، ومن ذلك قول طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته * وحدت كما حاد البعير عن الدحض ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل - ما أنتم إلا بشر مثلنا - ونحو ذلك (واتخذوا آياتي) أي القرآن (وما أنذروا) به من الوعيد والتهديد (هزؤا) أي لعبا وباطلا، وقد تقدم هذا في البقرة (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حق التدبر ويتفكر فيها حق التفكر (ونسي ما قدمت يداه) من الكفر والمعاصي، فلم يتب عنها. قيل والنسيان هنا بمعنى الترك، وقيل هو على حقيقته (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) أي أغطية: والأكنة جمع كنان، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم (وفى آذانهم وقرا) أي وجعلنا في آذانهم ثقلا يمنع من استماعه، وقد تقدم تفسير هذا في الأنعام (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم (وربك الغفور ذو الرحمة) أي كثير المغفرة، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شئ فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال (لو يؤاخذهم بما كسبوا) أي بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض (لعجل لهم العذاب لاستحقاقهم لذلك (بل) جعل (لهم موعد) أي أجل مقدر لعذابهم، قيل هو عذاب الآخرة، وقيل يوم بدر (لن يجدوا من دونه موئلا) أي ملجأ يلجئون إليه. وقال أبو عبيدة منجا، وقيل محيصا، ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خليتها * للعامريين ولم تكلم وقال الأعشى:
وقد أخالس رب البيت غفلته * وقد يحاذر منى ثم مايئل أي ما ينجو (وتلك القرى) أي قرى عاد وثمود وأمثالها (أهلكناهم) هذا خبر اسم الإشارة والقرى صفته، والكلام على حذف مضاف: أي أهل القرى أهلكناهم (لما ظلموا) أي وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي (وجعلنا لمهلكهم موعدا) أي وقتا معينا، وقرأ عاصم مهلكهم بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم، وبذلك قرأ حفص، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام. وقال الزجاج مهلك: اسم للزمان، والتقدير: لوقت مهلكهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (إلا أن تأتيهم سنة الأولين) قال: عقوبة الأولين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله (قبلا) قال: جهارا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال فجأة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ونسي ما قدمت يداه) قال: نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة.
(٢٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 291 292 293 294 295 296 297 298 299 300 301 ... » »»
الفهرست