بالله، و (من فضل الله علينا) خبر اسم الإشارة: أي ناشئ من تفضلات الله علينا ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوة المتضمنة للعصمة عن معاصيه، ومن فضل الله على الناس كافة ببعثة الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم وتبيين طرائق الحق لهم (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم فيؤمنون به ويوحدونه ويعملون بما شرعه لهم، قوله (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه، وقيل المراد: يا صاحبي في السجن، لأن السجن ليس بمصحوب بل مصحوب فيه، وأن ذلك من باب يا سارق الليلة. وعلى الأول يكون من باب قوله - أصحاب الجنة أصحاب النار - والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ، ومعنى التفرق هنا هو التفرق في الذوات والصفات والعدد: أي هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق المتفرد في ذاته وصفاته الذي لا ضد له ولا ند ولا شريك، القهار الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند؟ أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام، لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام، وقد قيل إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب، ولهذا قال لهما (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها) أي إلا أسماء فارغة سميتموها ولا مسميات لها، وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات، وهى الآلهة التي تعبدونها، لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسميات لها، وقيل المعنى:
ما تعبدون من دون الله إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم، وليس لها من الإلهية شئ إلا مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، وإنما قال (ما تعبدون) على خطاب الجمع وكذلك ما بعده من الضمائر، لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم، ومفعول سميتموها الثاني محذوف: أي سميتموها آلهة من عند أنفسكم (ما أنزل الله بها) أي بتلك التسمية (من سلطان) من حجة تدل على صحتها (إن الحكم إلا لله) أي ما الحكم إلا لله في العبادة، فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان، وجملة (أمر ألا تعبدوا إلا إياه) مستأنفة، والمعنى: أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود، ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره فقال (ذلك) أي تخصيصه بالعبادة (الدين القيم) أي المستقيم الثابت (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن ذلك هو دينه القويم، وصراطه المستقيم، لجهلكم وبعدكم عن الحقائق.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: سألت ابن عباس عن قوله (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات) فقال: ما سألني عنها أحد قبلك، من الآيات قد القميص وأثرها في جسده، وأثر السكين، وقالت امرأة العزيز إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال: من الآيات كلام الصبي.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: الآيات حزهن أيديهن وقد القميص.
وأقول: إن كان المراد بالآيات: الآيات الدالة على براءته فلا يصح عد قطع أيدي النسوة منها، لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي تنقطع عند مشاهدته عري الصبر وتضعف عند رؤيته قوى التجلد. وإن كان المراد الآيات الدالة على أنه قد أعطى من الحسن ما يسلب عقول المبصرين، ويذهب بإدراك الناظرين، فنعم يصح عد قطع الأيدي من جملة الآيات، ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: عوقب يوسف ثلاث مرات: أما أول مرة فبالحبس لما كامن همه بها، والثانية لقوله