عند الله وعند الناس يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك (وأحسن تأويلا) أي أحسن عاقبة، من آل إذا رجع. ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال (ولا تقف ما ليس لك به علم) أي لا تتبع ما لا تعلم، من قولك قفوت فلانا إذا اتبعت أثره. ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس. وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف مثل عثا وعاث. قال منذر بن سعيد البلوطي: قفا وقاف، مثل جذب وجبذ. وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ " تقف " بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الفراء بفتح القاف وهى لغة لبعض العرب. وأنكرها أبو حاتم وغيره. ومعنى الآية:
النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به. وهذه قضية كلية، وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور: فقيل لا تذم أحدا بما ليس لك به علم، وقيل هي في شهادة الزور، وقيل هي في القذف. وقال القتيبي: معنى الآية: لا تتبع الحدس والظنون. وهذا صواب، فإن ما عدا ذلك هو العلم، وقيل المراد بالعلم هنا هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعيا كان أو ظنيا. قال أبو السعود في تفسيره: واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه. وأقول: إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظن كالعمل بالعام وبخبر الواحد والعمل بالشهادة والاجتهاد في القبلة وفى جزاء الصيد ونحو ذلك، فلا تخرج من عمومها ومن عموم - إن الظن لا يغني من الحق شيئا - إلا ما قام دليل جواز العمل به، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ لما بعثه قاضيا " بم تقضى؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي " وهو حديث صالح للاحتجاج به كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد. وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنة، ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهى دخولا أوليا، لأنه محض رأى في شرع الله، وبالناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وبسنة رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزله منزلة مسائل الشرع. وبهذا يتضح لك أتم اتضاح ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شئ. والعامل بها على شفا جرف هار، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده - ظلمات بعضها فوق بعض - وقد قيل إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلا. ثم علل سبحانه النهى عن العمل بما ليس يعلم بقوله (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) إشارة إلى الأعضاء الثلاثة، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال الزجاج: إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك. وأنشد ابن جرير مستدلا على جواز هذا قول الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى * والعيش بعد أولئك الأيام واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام. وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف. والضمير في كان من قوله (كان عنه مسؤولا) يرجع إلى كل. وكذا الضمير في عنه، وقيل الضمير في كان يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله (ولا تقف). وقوله " عنه " في محل رفع لإسناد مسؤولا إليه. ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا أو مجرورا. قيل والأولى أن يقال إنه فاعل مسؤولا المحذوف،