الخبر لإفادة الاختصاص (وله الدين واصبا) أي ثابتا واجبا دائما لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص.
قال الفراء (واصبا) معناه دائما، ومنه قول الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه * بذم يكون الدهر أجمع واصبا أي دائما. وروى عن الفراء أيضا أنه قال: الواصب الخالص، والأول أولى، ومنه قوله سبحانه - ولهم عذاب واصب - أي دائم. وقال الزجاج: أي طاعته واجبة أبدا. ففسر الواصب بالواجب. وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب: أي ليس أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى فإن الطاعة تدوم له، ففسر الواصب بالدائم، وإذا دام الشئ دواما لا ينقطع فقد وجب وثبت، يقال وصب الشئ يصب وصوبا فهو واصب: إذا دام، ووصب الرجل على الأمر: إذا واظب عليه، وقيل الوصب التعب والإعياء: أي يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، والاستفهام في قوله (أفغير الله تتقون) للتقريع والتوبيخ، وهو معطوف على مقدر كما في نظائره، والمعنى: إذا كان الدين: أي الطاعة واجبا له دائما لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره. ثم أمتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال (وما بكم من نعمة) أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله: أي فهي منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، وبكم صلتها، ومن نعمة حال من الضمير في الجار والمجرور، أو بيان لما. وقوله (فمن الله) الخبر، وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفا أي ما يكن، والنعمة إما دينية وهى معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه، ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) أي إذا مسكم الضر أي مس فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو، يقال جأر يجأر جؤورا: إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان النكير أن تطيف وتجأرا والضر: المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) أي إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضر - إذا فريق أي جماعة منكم بربهم الذين رفع الضر عنهم يشركون فيجعلون معه إلها آخر من صنم أو نحوه. والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدم في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان. قال الزجاج: هذا خاص بمكر وكفر، وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فتكون من في منكم للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعا، والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجها إلى الكفار فمن للبيان، واللام في (ليكفروا بما آتيناهم) لام كي: أي لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم. وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها غاية، وقيل اللام للعاقبة: يعنى ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا هذا الكفر. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب (فتمتعوا) بما أنتم فيه من ذلك (فسوف تعلمون) عاقبة أمركم وما يحل بكم في هذه الدار وما تصيرون إليه في الدار الآخرة. ثم حكى سبحانه نوعا آخر من قبائح أعمالهم فقال (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) أي يقع منهم هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك