هذا حكاية ما أجاب به يعقوب بنيه لما قالوا له ما تقدم ذكره، أي إنما أشكو، والشكوى صفة ما يجده من البلوى، وإنما وصف (ع) ذلك لله طلبا للفرج من جهته، والبث تفريق الهم باظهاره عن القلب، يقال: بثه ما في نفسه بثا وأبثه إبثاثا، وبث الخيل على العدو: إذا فرقها عليه. وقال ابن عباس معنى (بثي) همي.
وقوله " واعلم من الله ما لا تعلمون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس: اعلم أن رؤيا يوسف صادقة واني ساجد له.
والثاني - قال قتادة: أعلم من احسان الله (عز وجل) إلي ما يوجب حسن ظني به، وإنما جاز على يعقوب وهو نبي، ان يبكي حتى تبيض عيناه من الحزن، لان عظم المصيبة يهجم على النفس حتى لا يملك معه القرار بالصبر حتى يرتفع الحزن، مع أنه على ولد لا كالأولاد، في جماله، وعقله، وعفافه، وعلمه، وأخلاقه، وبره، من غير تأس يوجب السلوة، ولا رجاء يقرب الحال الجامعة، ومع هذا فلم يكن منه الا ما يوجب الاجر العظيم والثواب الجزيل الكريم، والبكاء ليس بممنوع منه في الشرع، وإنما الممنوع اللطم، والخدش، والجز، وتخريق الثياب، والقول الذي لا يسوغ، وكل ذلك لم يكن منه (ع) وإنما جاز أن يخفى خبر يوسف على يعقوب مع قرب المسافة بينهما، لان يوسف كان بمصر ويعقوب بأرض الجزيرة من أرض حران، ولم يعرف يوسف أباه مكانه ليزول همه، لأنه في تلك المدة كان بين شغل وحجر على ما توجبه سياسة الملك، وبين حبس في السجن، لأنه مكث فيه سبع سنين لما محن به من امرأة العزيز، فلما تمكن من التدبير تلطف في ذلك لئلا يكون من أخوته حال تكره في ايصال خبره إلى أبيه لشدة ما ينالهم من التهجين في أمره إذا وقف على خبره.
وإنما جاز ان يستخرج الصواع من رحل أخيه مع ايجاب التهمة في ذلك عند الناس، وغم أبيه وأخيه خاصة وسائر اخوته عامة لوجوه:
أحدها - انه كان ذلك بمواطأة أخيه على ذلك بما يسر في باطنه.