الخبر، ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من السماء ونطق به الرسول كما في تحويل القبلة ومسألة المخابرة، أما سائر المجتهدات التي يلحق فيها المسكوت بالمنطوق قياسا واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا، إذا الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع، وليس فيها خطاب ونطق، فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن المجتهد، وسنفرد لهذا مسألة ونبين أنه ليس في المسألة أشبه عند الله عز وجل، ونذكر الآن شبه المخالفين وهي أربع:
الشبهة الأولى: قولهم هذا المذهب في نفسه محال، لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما، والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا، إذ ليس في المسألة حكم معين، وكل واحد من المجتهدين مصيب، فإذا الشئ ونقيضه حق وصواب وتبجح بعضهم بهذا الدليل حتى قال: هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة، لأنه في الابتداء يجعل الشئ ونقيضه حقا وبالآخر يرفع الحجر ويخير المجتهد بين الشئ ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المستفتى لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده. والجواب: أن هذا كلام فقيه سليم القلب جاهل بالأصول وبحد النقيضين وبحقيقة الحكم، ظان أن الحل والحرمة وصف للاعيان فيقول: يستحيل أن يكون النبيذ حلالا حراما، كما يستحيل أن يكون الشئ قديما حادثا، وليس يدري أن الحكم خطاب لا يتعلق بالأعيان بل بأفعال المكلفين، ولا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو، كالمنكوحة تحل للزوج وتحرم على الأجنبي، وكالميتة تحل للمضطر دون المختار، وكالصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض، وإنما المتناقض أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد، فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شئ من هذه الجملة انتفى التناقض حتى نقول: الصلاة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة واحدة لشخص واحد، لكن من وجه دون وجه، فإذا اختلاف الأحوال ينفي التناقص، ولا فرق بين أن يكون اختلاف الأحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر، أو بالعلم والجهل، أو غلبة الظن، فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا، ولو قال الشارع: يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة، ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك، فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن الجسور السلامة، حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما، وكذلك لو صرح الشارع وقال: من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه، ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض، فصريح مذهبنا إن لو نطق به الشرع لم يكن متناقضا ولا محالا، ومذهب الخصم لو صرح به الشرع كان محالا وهو أن يقول:
كلفتك العثور على ما لا دليل عليه، أو يقول: كلفتك العثور على ما عليه دليل، لكن لو تركته مع القدرة لم تأثم، فيكون الأول محالا من جهة تكليف ما لا يطاق، ويكون الثاني محالا من جهة تناقض حد الامر إذ حد الامر ما يعصى تاركه. الجواب الثاني: أن نقول: لو سلمنا أن الحل والحرمة وصف للاعيان أيضا لم يتناقض، إذ يكون من الأوصاف الإضافية، ولا