الاجتهاد باطل لأدائه إلى هذا النوع من التناقض وجوابه ما ذكرناه، ونقابله على مذهبه أيضا بما لا يجد عنه محيصا فنقول: إن أنكرت الظنون لم تنكر القواطع، وسعي الانسان في هلاك نفسه أو إهلاك غيره حرام بالقواطع، فلو اضطر شخصان إلى قدر من الميتة لا يفي إلا بسد رمق أحدهما، ولو قسماه أو تركاه ماتا، ولو أخذه أحدهما هلك الآخر، ولو وكله إليه أهلك نفسه فماذا يجب عليه وكيفما قال فهو مناقض ولا مخلص، فإن أوجب على كل واحد أن يأخذ فقد أوجب الاخذ على هذا وأوجب الدفع عن ذاك، فإن أوجب عليهما الترك فقد أوجب إهلاكهما جميعا، وإن خص أحدهما بالأخذ فهو تحكم، وإن قال يتخير كل واحد منهما بين الاخذ والترك فقد سلط هذا على الاخذ وذاك على الدفع، فإن أحدهما لو اختار الاخذ واختار الآخر الدفع جاز، وهو أيضا متناقض بزعمهم فماذا يقولون: والمختار عندنا في هذه الصورة التخيير لكل واحد، فإنه إنما يجب الاخذ إذا لم يهلك غيره، وإنما يجب الترك والايثار إذا لم يهلك نفسه، فإذا تعارضا تخيرا ويحتمل أن يقرع بينهما كبينتين متعارضتين. وأما المسألة الثانية إذا نشب الخصام بين الزوج وزوجته احتمل وجهين: أحدهما: أن يقول: يلزمهما الرفع إلى حاكم البلد فإن قضى بثبوت الرجعة لزم تقديم اجتهاد الحاكم على اجتهاد أنفسهما وحل لهما مخالفة اجتهاد أنفسهما إذ اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادهما لضرورة رفع الخصومات فإن عجزا عن حاكم فعليهما تحكيم عالم فيقضي بينهما، فإن لم يفعلا أثما وعصيا وكل ذلك احتمالات فقهية، ويحتمل أن يتركا متنازعين ولا يبالي بتمانعهما، فإنه تكليف بنقيضين في حق شخصين فلا يتناقض. وأما المسألة الثالثة وهي: أن تنكح بولي من نكحت بغير ولي فنقول: إن كان النكاح بلا ولي صدر من حنفي يعتقد ذلك فقد صح النكاح في حقه، والنكاح الثاني بعده باطل قطعا، لأنها صارت زوجة للأول، وإن كان الحنفي عقده باجتهاد نفسه واتصل به قضاء حنفي فذلك أوكد، فإن كان مقلدا فقد صح أيضا في حقه، وإن صدر العقد من شفعوي على خلاف معتقده احتمل أمرين: أحدهما: أن نقطع ببطلانه، فإنا إنما نجعله حقا إذا صدر من معتقده عن تقليد أو اجتهاد حيث لا يأثم ولا يعصي، وهذا قد عصى فهو مخطئ، ويحتمل أن يقال: ما لم يطلق أو لم يقض حاكم ببطلانه فلا تحل لغيره لأنه نكاح بصدد أن يقضي به حنفي فينحسم سبيل نقضه، فلا يعقد نكاح آخر قبل نقضه، وقد اختلفوا في أن الحنفي لو قضى لشفعوي بشفعة الجار أو بصحة النكاح بلا ولي، فهل يؤثر قضاؤه في الاحلال باطنا، فغلا أبو حنيفة وجعل القضاء بشهادة الزور يغير الحكم باطنا فيما للقاضي فيه ولاية الفسخ والعقد، وغلا قوم فقالوا: لا يحل القضاء شيئا بل يبقى على ما كان عليه، وإن كان قضاؤه في محل الاجتهاد. وقال قوم: يؤثر في محل الاجتهاد ويغير الحكم باطنا ولا يؤثر حيث قاله أبو حنيفة، وهذه احتمالات فقهية لا يستحيل شئ منها، فنختار منها ما نشاء، فلا يتناقض ولا يلزمنا في الأصول تصحيح واحد من هذه الاختيارات الفقهية، فإنها ظنيات محتملة كل مجتهد أيضا فيها مصيب.
الشبهة الثالثة: تمسكهم بطريق الدلالة بقولهم: لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد