وإن لم يمارس صاحبه صنعة الكلام فهذا من لوازم منصب الاجتهاد حتى لو تصور مقلد محض في تصديق الرسول وأصول الايمان لجاز له الاجتهاد في الفروع. أما المقدمة الثانية فعلم اللغة والنحو أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهة ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه، والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو، بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه، وأما العلمان المتممان فأحدهما: معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وذلك في آيات وأحاديث مخصوصة، والتخفيف فيه أن لا يشترط أن يكون جميعه على حفظه، بل كل واقعة يفتي فيها بآية أو حديث فينبغي أن يعلم أن ذلك الحديث وتلك الآية ليست من جملة المنسوخ، وهذا يعم الكتاب والسنة. الثاني: وهو يخص السنة معرفة الرواية، وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود، فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه، والتخفيف فيه أن كل حديث يفتى به مما قبلته الأمة، فلا حاجة، به إلى النظر في إسناده، وإن خالفه بعض العلماء فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم، فإن كانوا مشهورين عنده كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه، فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة، أو بتواتر الخبر، فما نزل عنه فهو تقليد، وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين، وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته فهذا مجرد تقليد، وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم، ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا، وذلك طويل، وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير. والتخفيف فيه أن يكتفي بتعديل الإمام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح، فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة و المشاهدة في حقه، ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الأئمة المشهورين، فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر فنقلده في تعديله، بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها قصر الطريق على المفتي، وإلا طال الامر، وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة الوسائط، ولا يزال الامر يزداد شدة بتعاقب الاعصار، فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون: علم الحديث، وعلم اللغة، وعلم أصول الفقه، فأما الكلام وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما، وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه وهذه التفاريع يولدها المجتهدون ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد، فكيف تكون شرطا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط، نعم: إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك، ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا.
دقيقة في التخفيف يغفل عنها الأكثرون: اجتماع هذه العلوم الثمانية، إنما يشترط في