اجتهاد ونظر، فإنه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه، فإن أخطأ لم يكن مأثوما، ويدل على وضع الإثم عنه وجوه:
أحدها: أنه مع استفراغ الوسع يتحقق العذر فلا يتحقق الإثم.
الثاني: أنا نجد الفرقة المحقة مختلفة في الأحكام الشرعية اختلافا شديدا حتى يفتي الواحد منهم بالشيء ويرجع عنه إلى غيره، فلو لم يرتفع الإثم لعمهم الفسق وشملهم الإثم، لأن القائل منهم بالقول إما أن يكون استفرغ وسعه في تحصيل ذلك الحكم أو لم يكن، فإن لم يكن تحقق الإثم، وإن استفرغ وسعه في تحصيل ذلك الحكم ثم لم يظفر ولم يعذر تحقق الإثم أيضا.
الثالث: الأحكام الشرعية تابعة للمصالح، فجاز أن يختلف بالنسبة إلى المجتهدين كاستقبال القبلة، فإنه يلزم كل من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أن يستقبل تلك الجهة إذا لم يكن له طريق إلى العلم، ثم تكون الصلاة مجزية لكل واحد منهم وإن اختلفت الجهات.
فإن قيل: لا نسلم أن مع استفراغ الوسع يمكن الغلط في الحكم، وذلك لأن الواقعة لابد فيها من حكم شرعي ولابد من نصب دلالة على ذلك الحكم، فلو لم يكن للمكلف طريق إلى العلم بها لكان نصبها عبثا، أو لما كان لذلك المخطئ طريق إلى العلم بالحكم مع تقدير استفراغ الوسع، وذلك تكليف بما لا يطاق. والجواب:
قوله: لابد من نصب دلالة.
قلنا: مسلم، لكن ما المانع أن يكون فرض المكلف مع الظفر بتلك الدلالة العمل بمقتضاها، ومع عدم الظفر بها يكون الحكم في الواقعة لا ذلك الحكم، ومثاله: جهة القبلة، فإن مع العلم بها يجب التوجه ومع عدم العلم يكون فرضه التوجه إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها جهة القبلة، وكذلك العمل بالبينة عند ظهور العدالة وخفاء الفسق ولو ظهر فسقها لوجب إطراحها، فما المانع أن تكون الأدلة التي وقع فيها النزاع كذلك؟
ألا ترى! أن العموم يخصص مع وجود المخصص ويعمل بعمومه مع عدم المخصص (1)