لا يقال: بقي أصل آخر، وهو أن يكون الخطاب الذي ورد من الله تعالى موافقا للبراءة الأصلية.
لأ نا نقول: هذا الكلام مما لا يرضى به لبيب، وذلك لأن خطابه تعالى تابع للحكم والمصالح ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة، قد يكون إيجابا، وقد يكون تحريما، وقد يكون تخييرا، وقد يكون غيرها لا يعلمها إلا هو جل جلاله. ونقول:
هذا الكلام في قبحه نظير أن يقال: الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلو، ومن المعلوم بطلان هذا المقال.
ثم أقول: الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الأمور في ثلاثة:
" أمر بين رشده وأمر بين غيه وشبهات بين ذلك " (1) وحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " (2) ونظائرهما أخرج كل واقعة لم يكن حكمها بينا عن البراءة الأصلية وأوجب التوقف فيها. ورأيت في آخر جمع الجوامع وشرحه من كتب أصول الشافعية حكاية حسنة في هذا المقام فاستمع لها، ففي جمع الجوامع: إذا خطر لك أمر فزنه بالشرع، فإن كان مأمورا فبادر فإنه من الرحمن، وإن كان منهيا فإياك فإنه من الشيطان، وإن شككت أمأمور أو منهي فأمسك (3).
وفي شرح الفاضل بدر الدين الزركشي (4) له: القسم الثالث أن نشك في كونه مأمورا أو منهيا، فالواجب الامساك عنه لقوله (صلى الله عليه وآله): " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وإنما اقتصر المصنف على هذه الأحوال الثلاثة، لأ نها قطب العلم وعليها تدور رحى العمل. وقد بلغني عن بعض الأئمة: أنه رأى في ابتداء أمره في المنام أنه حضر الجامع فوجد فيه متصدرا فجلس ليقرأ عليه، فقال: كيف تقرأ علي وقد علمك الله المسائل الثلاث؟ فانتبه وأتى معبرا، فقال: اذهب فستصير أعلم أهل زمانك، فإن المسائل الثلاث التي أشار إليها أمهات العلم في قوله (صلى الله عليه وآله): الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات... الحديث. انتهى كلامه.