سبحانه استفهاما آخر للتوبيخ والتقريع يجرى مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم، فقال (أفمن هو قائم على كل نفس) القائم الحفيظ والمتولي للأمور، وأراد سبحانه نفسه، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت، والجواب محذوف:
أي أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضر. قال الفراء: كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما، وقيل المراد بمن هو قائم على كل نفس الملائكة الموكلون ببني آدم، والأول أولى، وجملة (وجعلوا لله شركاء) معطوفة على الجواب المقدر مبينة له أو حالية بتقدير قد: أي وقد جعلوا، أو معطوفة على (ولقد استهزئ) أي استهزءوا وجعلوا (قل سموهم) أي قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم؟ وفى هذا تبكيت لهم وتوبيخ، لأنه إنما يقال هكذا في الشئ المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه، فيقال: سمه إن شئت: يعنى أنه أحقر من أن يسمى، وقيل إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون، فيكون ذلك تهديدا لهم (أم تنبئونه) أي بل أتنبئون الله (بما لا يعلم في الأرض) من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السماوات والأرض (أم بظاهر من القول) أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة، وقيل المعنى: قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم سموهم، فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكا، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض، لأنهم ادعوا له شريكا في الأرض، وقيل معنى (أم بظاهر من القول) أم بزائل من القول باطل، ومنه قول الشاعر:
أعيرتنا ألبانها ولحومها * وذلك عار يا بن ريطة ظاهر حديث أي زائل باطل، وقيل بكذب من القول، وقيل معنى بظاهر من القول بحجة من القول ظاهرة على زعمهم (بل زين للذين كفروا مكرهم) أي ليس لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس " زين " على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم. وقرأ من عداه بالبناء عند للمفعول، والمزين هو الله سبحانه، أو الشيطان ويجوز أن يسمى المكر كفرا، لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان كفرا، وأما معناه الحقيقي فهو الكيد، أو التمويه بالأباطيل (وصدوا عن السبيل) قرأ حمزة والكسائي وعاصم (صدوا) على البناء للمفعول: أي صدهم الله، أو صدهم الشيطان. وقرأ الباقون على البناء للفاعل: أي صدوا غيرهم، واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الصاد (ومن يضلل الله فما له من هاد) أي يجعله ضالا وتقتضي مشيئته إضلاله، فما له من هاد يهديه إلى الخير. قرأ الجمهور (هاد) من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة. وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة، ثم بين سبحانه ما يستحقونه، فقال (لهم عذاب في الحياة الدنيا) بما يصابون به من القتل والأسر وغير ذلك (ولعذاب الآخرة أشق) عليهم من عذاب الحياة الدنيا (وما لهم من الله من واق) يقيهم عذابه، ولا عاصم يعصمهم منه، ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى، ذكر ما أعده للمؤمنين، فقال (مثل الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار) أي صفقتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل، قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بمعنى صورة الشئ وصفته، يقال مثلت لك كذا: أي صورته ووصفته، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها، ثم ذكرها، فقال (تجرى من تحتها الأنهار) وهو كالتفسير للمثل. قال سيبويه: وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة. وقال الخليل وغيره: إن مثل الجنة مبتدأ