وبهذا يفترق عن التقليد، لأنه إن كان معه اعتقاد ثان فإن هذا الاعتقاد يمكن زواله، لأنه ليس عن علة توجبه بنفسه، بل إنما هو من جهة التبعية للغير ثقة به وإيمانا بقوله، فيمكن فرض زواله، فلا تكون مقارنة الاعتقاد الثاني للأول واجبة في نفس الأمر.
ولأجل اختلاف سبب الاعتقاد - من كونه حاضرا لدى العقل أو غائبا يحتاج إلى الكسب - تنقسم القضية اليقينية إلى بديهية، ونظرية كسبية تنتهي لا محالة إلى البديهيات. فالبديهيات إذا هي أصول اليقينيات، وهي على ستة أنواع بحكم الاستقراء: أوليات ومشاهدات وتجربيات ومتواترات وحدسيات وفطريات.
1 - الأوليات (1):
وهي قضايا يصدق بها العقل لذاتها، أي بدون سبب خارج عن ذاتها، بأن يكون تصور الطرفين مع توجه النفس إلى النسبة بينهما (2) كافيا في الحكم والجزم بصدق القضية، فكلما وقع للعقل أن يتصور حدود القضية - الطرفين - على حقيقتها وقع له التصديق بها فورا عندما يكون متوجها لها.
وهذا مثل قولنا: " الكل أعظم من الجزء " و " النقيضان لا يجتمعان ".
وهذه الأوليات منها ما هو جلي عند الجميع، إذ يكون تصور الحدود حاصلا لهم جميعا - كالمثالين المتقدمين - ومنها ما هو خفي عند بعض، لوقوع الالتباس في تصور الحدود، ومتى ما زال الالتباس بادر العقل إلى الاعتقاد الجازم.
تقدم في الجزء الأول بيان معنى توجه النفس والحاجة إليه. وهذا البحث عن معنى التوجه وأسبابه وضرورته من مختصات هذا الكتاب التي لم يسبق إليها سابق فيما نعلم بهذا التفصيل. (*)