هذا مع غاية اجتهاده في التوجه إلى مولاه، وقيامه بأوراد العبادة حتى يكل قدماه، وهو مع ذلك قائم بالنظر في أحوال معيشته على أحسن نظام، وقضاء حوائج المحتاجين بأتم قيام، يلقى الأضياف بوجه مسفر عن كرم كانسجام المطار وبشاشة تكشف عن شمم كالنسيم المعطار، يكاد يبرح بالروح وترتاح إليه النفوس كالغض المروح، إن رآه الناظر على أسلوب ظن أنه ما تعاطى سواه، ولم يعلم أنه بلغ من كل فن منتهاه، ووصل منه إلى غاية أقصاه، فجاء نظامه أرق من النسيم للعليل، وآنق من الروض البليل.
أما الأدب فإليه كان منتهاه، ورقى فيه حتى بلغ سماه. وأما الفقه فقد كان قطب مداره وفلك شموسه وأقماره، وكان هوي نجم سعوده في داره.
وأما الحديث فقد مد فيه باعا طويلا، وذلل صعاب معانيه تذليلا، وشعشع القول فيه وروقه، ومد في ميدان الإعجاز مطلقة، حتى صار نصب عينه عيانا.
وجعل للسالكين في طرقه تبيانا، أدأب نفسه في تصحيحه وإبرازه للناس حتى فشا، وجعل ورده في ذلك غالبا ما بين المغرب والعشاء، وما ذاك إلا لأنه ضبط أوقاته بتمامها، وكانت هذه الفترة بغير ورد قرين الأوراد بختامها.
وأما المعقول فقد أتى فيه من الابداع ما أراد وسبق فيه الأنداد والأفراد، أن تكلم في علم الأوائل بهج الأذهان والألباب، وولج منها كل باب.
وأما علوم القرآن العزيز وتفاسيره من البسيط والوجيز، فقد حصل على فوائدها وحازها، وعرف حقائقها ومجازها وعلم إطالتها وإيجازها وأما الهيئة والهندسة والحساب والميقات، فقد كانت له فيها يد لا تقصر عن الآيات.
وأما السلوك والتصرف، فقد كان له فيه تصرف وأي تصرف.