يترقى قليلا قليلا إلى أن ينقلب الظن علما عند الانتهاء إلى حد التواتر، والمحدثون يسمون أكثر هذه الأحوال علما ويقينا، حتى يطلقوا القول بأن الاخبار التي تشتمل عليها الصحاح توجب العلم والعمل، وكافة الخلق إلا آحاد المحققين يسمون الحالة الثانية يقينا، ولا يميزون بين الحالة الثانية والأولى، والحق أن اليقين هو الأول، والثاني مظنة الغلط، فإذا ألفت برهانا من مقدمات يقينية على الذوق الأول وراعيت صورة تأليفه على الشروط الماضية فالنتيجة ضرورية يقينية يجوز الثقة بها، هذا بيان نفس اليقين. أما مدارك اليقين فجميع ما يتوهم كونه مدركا لليقين والاعتقاد الجزم ينحصر في سبعة أقسام:
الأول: الأوليات: وأعني بها العقليات المحضة التي أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل مجبل على التصديق بها، مثل علم الانسان بوجود نفسه وبأن الواحد لا يكون قديما حادثا، وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر، وأن الاثنين أكثر من الواحد ونظائره، وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتسمة في العقل، منذ وجوده، حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد ولا يقف حصوله على أمر سوى وجود العقل إذ يرتسم فيه الموجود مفردا والقديم مفردا والحادث مفردا والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتنسب بعضها إلى بعض، مثل أن القديم حادث، فيكذب بالعقل به، وأن القديم ليس بحادث، فيصدق العقل به، فلا يحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات، وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض، فينتهض العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب.
الثاني: المشاهدات الباطنة: وذلك كعلم الانسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه، وجميع الأحوال الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس، فهذه ليست من الحواس الخمس ولا هي عقلية، بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل، وكذا الصبي، والأوليات لا تكون للبهائم ولا للصبيان.
الثالث: المحسوسات الظاهرة: كقولك: الثلج أبيض، والقمر مستدير والشمس مستنيرة، وهذا الفن واضح، لكن الغلط يتطرق إلى الابصار لعوارض، مثل بعد مفرط وقرب مفرط، أو ضعف في العين، وأسباب الغلط في الابصار التي هي على الاستقامة ثمانية والذي بالانعكاس كما في المرآة، أو بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج فيتضاعف في أسباب الغلط، واستقصاء ذلك في هذه العلاوة غير ممكن، فإن أردت أن تفهم منه أنموذجا فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكنا، والعقل يقضي بأنه متحرك، وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة، وإلى الصبي في أول نشوئه والنبات في أول النشوء وهو في النمو والتزايد في كل لحظة على التدريج، فتراه واقفا، وأمثال ذلك مما يكثر.
الرابع: التجربيات: وقد يعبر عنها باطراد العادات، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة، والخبز مشبع، والحجر هاو إلى أسفل، والنار صاعدة إلى فوق، والخمر مسكر، والسقمونيا مسهل فإذا المعلومات التجربية يقينية عند من جربها والناس يختلفون في هذه العلوم