الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة، فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء، ولا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلا بقول الله تعالى وقول الرسول المعصوم، ولا ينبغي أن يظن أن على المدعي أيضا دليلا، فإن قول الشاهد إنما صار دليلا بحكم الشرع، فإن جاز ذلك فيمين المدعى عليه أيضا لازم، فليكن ذلك دليلا. (والجواب الثاني): أن المدعى عليه يدعي علم الضرورة ببراءة ذمة نفسه، إذ يتيقن أنه لم يتلف ولم يلتزم ويعجز الخلق كلهم عن معرفته، فإنه لا يعرفه إلا الله تعالى: فالنافي في العقليات إن ادعى معرفة إن ادعى معرفة النفي ضرورة فهو محال، وإن أقر بأنه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلا الله، فعند ذلك لا يطالب بالدليل، وكذلك أنه إذا أخبر عن نفسه بنفي الجوع ونفي الخوف وما جرى مجراه، وعند ذلك يستوي الاثبات والنفي، فإنه لو ادعى وجود الجوع والخوف كان ذلك معلوما له ضرورة، ويعسر على غيره معرفته، والعقليات مشتركة النفي منها و الاثبات والمحسوسات أيضا يستوي فيها النفي والاثبات. (الثالث): أن النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهي اليمين كما على المدعي دليل وهو البينة، وهذا ضعيف، إذ اليمين يجوز أن تكون فاجرة، فأي دلالة لها من حيث العقل، لولا حكم الشرع نعم هو كالبينة، فإن قول الشاهدين أيضا يجوز أن يكون غلطا وزورا، فاستعماله من هذا الوجه صحيح كما سبق، أو يقال: كما وجب على النافي في مجلس القضاء أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في الاحكام فهذا أيضا له وجه. (الرابع): أن يد المدعى عليه دليل على نفي ملك المدعي وهو ضعيف، لان اليد تسقط دعوى المدعي شرعا، وإلا فاليد قد تكون عن غصب وعارية فأي دلالة لها.
(الشبهة الثانية): وهي أنه كيف يكلف الدليل على النفي، وهو متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمة، فنقول: تعذره غير مسلم، فإن النزاع إما في العقليات وإما في الشرعيات، أما العقليات فيمكن أن يدل على نفيها بأن إثباتها يفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال فهو محال لقوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) ومعلوم أنهما لم تفسدا، فدل ذلك على نفي الثاني، ويمكن إثباته بالقياس الشرطي الذي سميناه في المقدمة طريق التلازم: فإن كل إثبات له لوازم، فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وكذلك المتحدي ليس نبيا، إذ لو كان نبيا لكان معه معجزة، إذ تكليف المحال محال فهذا طريق وهو الصحيح. الطريق الثاني: أن يقال للمثبت لو ثبت ما ادعيته لعلم ذلك بضرورة أو دليل، ولا ضرورة مع الخلاف ولا دليل، فيدل ذلك على الانتفاء، وهذا فاسد، فإنه ينقلب على النافي فيقال له: لو انتفى الحكم لعلم انتفاؤه بضرورة أو بدليل ولا ضرورة ولا دليل، ولا يمكنه أن يتمسك بالاستصحاب، بأن يقول مثلا: الأصل عدم إله ثان، فمن ادعاه فعليه الدليل، إذ لا يسلم له أن الأصل العدم بخلاف البراءة الأصلية، فإن العقل قد دل على نفي الحكم قبل السمع من حيث دل على أن الحكم هو التكليف والخطاب من الله تعالى وتكليف المحال محال، ولو كلفناه من غير رسول مصدق بالمعجزة يبلغ إلينا تكليفه، كان ذلك تكليف محال، فاستندت البراءة الأصلية إلى دليل عقلي بخلاف عدم الاله الثاني، وأما قولهم: لو ثبت إله ثان لكان لله تعالى عليه دليل فهو تحكم من وجهين: (أحدهما): أنه يجوز