أن لا ينصب الله تعالى على بعض الأشياء دليلا، ويستأثر بعلمه. (الثاني): إنه يجوز أن ينصب عليه دليلا، ونحن لا نتنبه له، ويتنبه له بعض الخواص أو بعض الأنبياء ومن خصص بحاسة سادسة وذوق أخر، بل الذي يقطع به أن الأنبياء يدركون أمورا نحن لا ندركها وأن في مقدورات الله أمورا ليس في قوة البشر معرفتها، ويجوز أن يكون لله تعالى صفات لا تدرك بهذه الحواس ولا بهذا العقل، بل بحاسة سادسة أو سابعة، بل لا يستحيل أن تكون اليد والوجه عبارة عن صفات لا نفهمها ولا دليل عليها، ولو لم يرد السمع بها لكان نفيها خطأ، فلعل من الصفات من هذا القبيل ما لم يرد السمع بالتعبير عنه، ولا فينا قوة إدراكها، بل لو لم يخلق لنا السمع لأنكرنا الأصوات ولم نفهمها، ولو لم يخلق لنا ذوق الشعر لأنكرنا تفرقة صاحب العروض بين الموزون وغير الموزون، فما يدرينا أن في قدرة الله تعالى أنواعا من الحواس، لو خلقها لنا لأدركنا بها أمورا أخر نحن ننفيها، فكان هذا إنكارا بالجهل ورميا في العماية، أما الشرعيات فقد تصادف الدليل عليها من الاجماع، كنفي وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، أو النص، كقوله (ص): لا زكاة في الحلى، ولا زكاة في المعلوفة أو من القياس، كقياس الخضراوات على الرمان والبطيخ المنصوص على نفي الزكاة عنه، كقول الراوي: لا زكاة في الرمان والبطيخ، بل هو عفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لا يساعد مثل هذا الدليل فنبحث عن مدارك الاثبات، فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي الثابت بدليل العقل، وهو دليل عند عدم ورود السمع، وحيث أوردنا في تصانيف الخلاف أن النافي لا دليل عليه أردنا به أنه ليس عليه دليل سمعي، إذ يكفيه استصحاب البراءة الأصلية التي كنا نحكم بها لولا بعثة الرسول وورود السمع، فإن قيل: دليل العقل مشروط بانتفاء السمع، وانتفاء السمع غير معلوم، وعدم العلم به لا يدل على عدمه ولا سبيل إلى دعوى العلم بانتفائه، فإن ذلك لا يعلم؟ قلنا: قد بينا أن انتفاءه تارة يعلم كما في انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، وتارة يظن بأن يبحث من هو من أهل البحث عن مدارك الشرع، والظن فيه كالعلم لأنه صادر عن اجتهاد، إذ قد يقول لو كان لوجدته، فإذا لم أجده مع شدة بحثي دل على أنه ليس بكائن، كطالب المتاع في البيت إذا استقصى، فإن قيل أليس للاستقصاء غاية محدودة، بل للبحث بداية ووسط ونهاية، فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي المغير؟ قلنا: مهما رجع رجع إلى نفسه فعلم أنه بذل غاية وسعه في الطلب كطالب المتاع في البيت، فإن قيل: البيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن، ومدارك الشرع غير محصورة، فإن الكتاب وإن كان محصورا فالاخبار غير محصورة، وربما كان راوي الحديث مجهولا؟ قلنا: إن كان ذلك في ابتداء الاسلام قبل انتشار الاخبار، ففرض كل مجتهد ما هو جهد رأيه إلى أن يبلغه الخبر، وإن كان بعد أن رويت الاخبار وصنفت الصحاح، فما دخل فيها محصور عند أهلها وقد انتهى إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف. وعلى الجملة: فدلالة العقل على النفي الأصلي مشروطة بنفي المغير، كما أن دلالة العموم مشروطة بنفي المخصص، وكل واحد من المخصص والمغير تارة يعلم انتفاؤه وتارة يظن وكل واحد دليل في الشرع. هذا تمام الكلام في الأصل الرابع
(١٦٤)