بعدهم من الفقهاء، ولم ينكر عليهم أحد في عصر، ولو كان نكير لنقل، ولوجب في مستقر العادة اشتهاره، وتوفرت الدواعي على نقله، كما توفرت على نقل العمل به، فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف، وإنما الخلاف، حدث بعدهم، فإن قيل: لعلهم عملوا، بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الأخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم، وصيغة الأمر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها؟ قلنا: لانهم لم ينقل عنهم لفظ، إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم، وقد قالوا هاهنا: لولا هذا لقضينا بغير هذا، وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج، ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها، كيف وصيغة العموم والامر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والآمر، أما ما يرويه الراوي عن رسول الله (ص)، فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه؟ فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب، وبالخبر المتواتر وبالاجماع وذلك يبطل جميع الأدلة، وبالجملة فمناشدتهم في طلب الاخبار لا داعي لها إلا بالعمل بها، فإن قيل: فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا؟ قلنا: ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي، وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة، لاطلاعهم على نسخها أو فوات الامر وانقراض من كان الخطاب متعلقا به.
الدليل الثاني: ما تواتر من إنفاذ رسول الله (ص) أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف، وهم آحاد، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع، فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع، وإنفاذه سورة براءة مع علي، وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه (ص) ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات، وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها، ومن ذلك إنفاذه (ص) عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه، حتى بلغه أن قريشا قتلته، فقلق لذلك، وبايع لأجله بيعة الرضوان، وقال:
والله لئن كانوا قتلوه لاضرمنها عليهم نارا ومن ذلك توليته (ص) على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم، ومالك بن نويرة، والزبرقان بن بدر، وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص، وعمرو بن حزم، وأسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان (ص) يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه، ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه، وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره، وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم، وفسد النظام والتدبير، وذلك وهم باطل قطعا، فإن قيل: كان قد أعلمهم (ص) تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة، وإنما بعثهم لقبضها؟ قلنا: ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد، ثم لم يكن بعثه (ص) في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع، فإن قيل: فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة، بل أصل الدعوة والرسالة