لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه ملك فارس والروم، وقيل لأنه ملك الروم والترك، وقيل لأنه كان لتاجه قرنان. قوله (قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) أي سأتلو عليكم أيها السائلون من ذي القرنين خبرا، وذلك بطريق الوحي المتلو. ثم شرع سبحانه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكرا فقال (إنا مكنا له في الأرض) أي أقدرناه بما مهدنا له من الأسباب، فجعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فيها، وسهل عليه المسير في مواضعها، وذلل له طرقها حتى تمكن منها أين شاء وكيف شاء؟ ومن جملة تمكينه فيها أنه جعل له الليل والنهار سواء في الإضاءة (وآتيناه من كل شئ) مما يتعلق بمطلوبه (سببا) أي طريقا يتوصل بها إلى ما يريده (فأتبع سببا) من تلك الأسباب. قال المفسرون: والمعنى طريقا تؤديه إلى مغرب الشمس. قال الزجاج: فأتبع سببا من الأسباب التي أوتى، وذلك أنه أوتى من كل شئ سببا فأتبع من تلك الأسباب التي أوتى سببا في المسير إلى المغرب، وقيل أتبع من كل شئ علما يتسبب به إلى ما يريد، وقيل بلاغا إلى حيث أراد، وقيل من كل شئ يحتاج إليه الخلق، وقيل من كل شئ تستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب الحبل فاستعين لكل ما يتوصل به إلى شئ. قرأ ابن عامر وأهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي " فأتبع " بقطع الهمزة، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وأبو عمرو بوصلها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى، مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله - فأتبعه شهاب ثاقب - قال النحاس: واختار أبو عبيده قراءة أهل الكوفة، قال لأنها من السير. وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعته وأتبعته إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه. قال أبو عبيدة: ومثله - فأتبعوهم مشرقين -. قال النحاس: وهذا من الفرق وإن كان الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلم أو دليل، وقوله عز وجل - فأتبعوهم مشرقين - ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه في البحر انطبق عليهم البحر. والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهو بمعنى السير (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) أي نهاية الأرض من جهة المغرب، لأن من وراء هذه النهاية البحر المحيط، وهو لا يمكن المضي فيه (وجدها تغرب في عين حمئة) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي حامية: أي حارة. وقرأ الباقون " حمئة " أي كثيرة الحمأة، وهى الطينة السوداء، تقول: حمئت البئر حمأ بالتسكين إذا نزعت حمأتها، وحمأت بن البئر حمأتها بالتحريك كثرت حمأتها، ويجوز أن تكون حامية من الحمأة، فخففت الهمزة وقلبت ياء، وقد يجمع بين القراءتين فيقال كانت حارة وذات حمأة. قيل ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره، ولا يبعد أن يقال لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر المحيط حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس، ومكن له في الأرض والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهر (ووجد عندها قوما) الضمير في عندها إما للعين أو للشمس.
قيل هم قوم لباسهم جلود الوحش، وكانوا كفارا، فخيره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم، فقال (إما أن تعذب، وإما أن تتخذ فيهم حسنا) أي إما أن تعذبهم بالقتل من أول الأمر، وإما أن تتخذ فيهم أمرا ذا حسن أو أمرا حسنا مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر، والمراد دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع. (قال) ذو القرنين مختارا للدعوة التي هي الشق الأخير من الترديد (أما من ظلم) نفسه بالإصرار على الشرك ولم يقبل دعوتي (فسوف نعذبه) بالقتل في الدنيا (ثم يرد إلى ربه) في الآخرة (فيعذبه) فيها (عذابا نكرا) أي منكرا فظيعا. قال الزجاج: خيره الله بين الأمرين. قال النحاس: ورد علي بن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل (ثم يرد إلى ربه) وكيف يقول (فسوف نعذبه) فيخاطبه بالنون، قال: والتقدير قلنا يا محمد