يخرج عن اللفظ ما قصد به الدلالة عليه، فإن قوله: إفعل أبدا، يجوز أن ينسخ، وما أريد باللفظ بعض الأزمنة، بل الجميع، لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ، كما إذا قال: ملكتك أبدا، ثم يقول: فسخت، فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط استمرار الحكم بعد ثبوته، وقصد الدلالة عليه باللفظ، فلذلك يفترقان في خمسة أمور: الأول: أن الناسخ يشترط تراخيه، والتخصيص يجوز اقترانه، لأنه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز تأخير البيان. الثاني: أن التخصيص لا يدخل في الامر بمأمور واحد، والنسخ يدخل عليه. والثالث: أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع. الرابع: أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا، على ما فيه من الاختلاف، والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية. الخامس: أن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس، وخبر الواحد وسائر الأدلة، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع، وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم أن النسخ لا يتناول إلا الأزمان، والتخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال، وهذا تجوز واتساع، لان الأعيان والأزمان ليست من أفعال المكلفين، والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان، والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الأحوال، فإذا قال: اقتلوا المشركين إلا المعاهدين، معناه لا تقتلوهم في حالة العهد واقتلوهم في حالة الحرب، والمقصود أن ورود كل واحد منهما على الفعل وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ.
الفصل الثاني: من هذا الباب في إثباته على منكريه والمنكر إما جوازه عقلا أو وقوعه سمعا، أما جوازه عقلا فيدل عليه أنه لو امتنع لكان إما ممتنعا لذاته وصورته أو لما يتولد عنه من مفسدة أو أداء إلى محال ولا يمتنع لاستحالة ذاته وصورته، بدليل ما حققناه من معنى الرفع، ودفعناه من الاشكالات عنه، ولا يمتنع لأدائه إلى مفسدة وقبح، فإنا أبطلنا هذه القاعدة وإن سامحنا بها فلا بعد في أن يعلم الله تعالى مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له ويمتنعوا، بسبب العزم عن معاص وشهوات، ثم يخفف عنهم، وأما وقوعه سمعا فيدل عليه الاجماع والنص، أما الاجماع فاتفاق الأمة قاطبة على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شرع من قبله، إما بالكلية وإما فيما يخالفها فيه، وهذا متفق عليه، فمنكر هذا خارق للاجماع، وقد ذهب شذوذ من المسلمين إلى إنكار النسخ، وهم مسبوقون بهذا الاجماع، فهذا الاجماع حجة عليهم وإن لم يكن حجة على اليهود. وأما النص فقوله تعالى:
* (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) * (النحل: 101) الآية.
والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما تلاوة وإما حكم وكيفما كان، فهو رفع ونسخ، فإن قيل: ليس المعني به رفع المنزل، فإن ما أنزل لا يمكن رفعه وتبديله، لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال آية بدل ما لم ينزل، فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل، قلنا: هذا تعسف بارد، فإن الذي لم ينزل كيف يكون مبدلا، والبدل يستدعي مبدلا، وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الانزال فهذا هوس وسخف. والدليل الثاني: قوله تعالى:
* (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 061) ولا معنى للنسخ