أنه خارج عن القياس، فإن قيل: فحيث أوردتم مسألة المصراة مثالا فهل تقولون إن العلة موجودة في مسألة المصراة، وهي تماثل الاجزاء، لكن اندفع الحكم بمانع النص، كما تقولون في مسألة المغرور بحرية الولد، قلنا: لا، لان التماثل ليس علة لذاته، بل يجعل الشرع إياه علامة على الحكم، فحيث لم يثبت الحكم لم يجعله علامة فلم يكن علة، كما أنا لا نقول الشدة الموجودة قبل تحريم الخمر كانت علة، لكن لم يرتب الشرع عليها الحكم، بل ما صارت علة إلا حيث جعلها الشرع علة، وما جعلها علة إلا بعد نسخ إباحة الشرب، فكذلك التماثل ليس علة في مسألة المصراة، بخلاف مسألة المغرور، فإن الحكم فيه ثابت تقديرا، وكأنه ثبت ثم اندفع فهو في حكم المنقطع لا في حكم الممتنع، ولو نصب شبكة ثم مات فتعقل بها صيد لقضى منه ديونه، ويستحقه ورثته لان نصب الشبكة سبب ملك الناصب للصيد. ولكن الموت حالة تعقل الصيد دفع الملك فتلقاه الوارث، وهو في حكم الثابت للميت المنتقل إلى الوارث، فليفهم دقيقة الفرق بينهما. فإن قيل: إذا لم يكن التماثل علة في المصراة فقد انعطف به قيد على التماثل، أفتقولون العلة في غير المصراة التماثل المطلق أو تماثل مضاف إلى غير المصراة؟ فإن قلتم هو مطلق التماثل ومجرده فهو محال لأنه موجود في المصراة ولا حكم.
وإن قلتم هو تماثل مضاف فليجب على المعلل الاحتراز، فإنه إذا ذكر التماثل المطلق فقد ذكر بعض العلة، إذ ليست العلة مجرد التماثل، بل التماثل مع قيد الإضافة إلى غير المصراة، وعند هذا يكون انتفاء الحكم في مسألة المصراة لعدم العلة فلا يكون نقضا للعلة ولا تخصيصا، فإذا قال القائل: اقتلوا زيدا لسواده، اقتضى ظاهره قتل كل أسود، فلو ظهر بنص قاطع أنه ليس يقتل إلا زيد فقد بان أن العلة لم تكن السواد المطلق، بل سواد زيد وسواد زيد لا يوجد إلا في زيد، فإن لم يقتل غيره فلعدم العلة لا لخصوص العلة ولا لانتقاضها ولا لاستثنائها عن العلة.
والجواب: أن هذا منشأ تخبط الناس في هذه المسألة، وسبب غموضها أنهم تكلموا في تسمية مطلق التماثل علة قبل معرفة حد العلة، وأن العلة الشرعية تسمى علة أي اعتبار، وقد أطلق الناس اسم العلة باعتبارات مختلفة، ولم يشعروا بها، ثم تنازعوا في تسمية مثل هذا علة، وفي تسمية مجرد السبب علة دون المحل والشرط، فنقول: اسم العلة مستعار في العلامات الشرعية، وقد استعاروها من ثلاثة مواضع على أوجه مختلفة: الأول: الاستعارة من العلة العقلية، وهو عبارة عما يوجب الحكم لذاته، فعلى هذا لا يسمى التماثل علة لأنه بمجرده لا يوجب الحكم، ولا يسمى السواد علة بل سواد زيد، ولا تسمى الشدة المجردة علة، لأنه بمجرده لا يوجب الحكم بل شدة في زمان. الثاني: الاستعارة من البواعث، فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل فمن أعطى فقيرا فيقال: أعطاه لفقره فلو علل به ثم منع فقيرا آخر فقيل له لم تعطه وهو فقير؟ فيقول لأنه عدوي ومنع فقيرا ثالثا وقال: لأنه معتزلي، فلذلك لم أعطه فمن تغلب على طبعه عجرفة الكلام وجدله، فقد يقول: أخطأ في تعليلك الأول، فكان من حقك أن تقول أعطيته لأنه فقير وليس عدوا ولا هو معتزلي ومن بقي على الاستقامة التي يقتضيها أصل الفطرة وطبع المحاورة لم يستبعد ذلك ولم يعده متناقضا، وجوز أن يقول: أعطيته لأنه فقير، لان باعثه هو الفقر، وقد لا يحضره عند الاعطاء العداوة والاعتزال ولا انتفاؤهما، ولو كانا جزأين