العقلية، أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية لان العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة، وذلك وضع من الشارع، ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم، فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل، فليس إيجابها لذاتها، ولا فرق بين قوله الشارع: ارجموا ماعزا، وبين قوله: جعلت الزنا علامة إيجاب الرجم، فإن قيل: فالحكم لا يثبت إلا توقيفا ونصا فلتكن العلة كذلك، قلنا: لا يثبت الحكم إلا توقيفا لكن ليس طريق معرفة التوقيف في الاحكام مجرد النص بل النص والعموم والفحوى ومفهوم القول وقرائن الأحوال وشواهد الأصول وأنواع الأدلة، فكذلك إثبات العلة تتسع طرقه ولا يقتصر فيه على النص.
المقدمة الثالثة إن الحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون، والمقطوع به على مرتبتين:
إحداهما: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، كقوله: (لا تقل لهما أف) * [الاسراء: 32] فإنه أفهم تحريم الضرب والشتم، وكقوله عليه السلام أدوا الخيط والمخيط فإنه أفهم تحريم الغلول في الغنيمة بكل قليل وكثير، وكنهيه عن الضحية بالعوراء والعرجاء، فإنه أفهم المنع من العمياء ومقطوعة الرجلين، وكقوله: العينان وكاء السه فإذا نامت العينا استطلق الوكاء، فإن الجنون والاغماء والسكر وكل ما أزال العقل أولى به من النوم، وقد اختلفوا في تسمية هذا قياسا وتبعد تسميته قياسا، لأنه لا يحتاج فيه إلى فكر واستنباط علة، ولان المسكوت عنه هاهنا كأنه أولى بالحكم من المنطوق به ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به، ولا مشاحة في الأسامي، فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الالحاق يشمل هذه الصورة، فإنما مخالفته في عبارة، وهذا الجنس قد يلتحق بأذياله ما يشبهه من وجه، ولكنه يفيد الظن دون العلم، كقولهم: إذا جبت الكفارة في قتل الخطأ فبأن تجب في العمد أولى، لان فيه ما فيه الخطأ وزيادة عدوان، وإذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى، لان الكفر فسق وزيادة، وإذا أخذت الجزية من الكتابي فمن الوثني أولى، لأنه كافر مع زيادة جهل، وهذا يفيد الظن في حق بعض المجتهدين، وليس من جنس الأول بل جنس الأول أن يقول إذا قبلت شهادة اثنين فشهادة الثلاثة أولى. وهو مقطوع به لأنه وجد فيه الأول وزيادة. والعمياء عوراء مرتين، ومقطوع الرجلين أعرج مرتين، فأما العمد فيخالف الخطأ، فيجوز أن لا تقوى الكفارة على محوه بخلاف الخطأ، بل جنس الأول قولنا: من واقع أهله في نهار رمضان فعليه الكفارة. فالزاني به أولى إذ وجد في الزنا إفساد الصوم بالوطئ وزيادة ولم يوجد في العمد الخطأ وزيادة، وكذلك الوثني، بدليل أنه لو وقع التصريح بالفرق بين هذه المسائل لم تنفر النفس عن قبوله، ولو قيل: تجزئ العمياء دون العوراء أو تقبل شهادة اثنين ولا تقبل شهادة ثلاثة. كان ذلك مما تنفر النفس عن قبوله وإنما نفرت النفس عن قبوله لما علم قطعا من أن منع العوراء لأجل نقصانها، وقبول شهادة اثنين لظهور صدق الدعوى وتحريم التأفيف لاكرام الآباء، فمع فهم هذه المعاني يتناقض الفرق، ولم يفهم مثل ذلك