ولا يعرف قصده إلا بقوله أو بقرينة ثم نقول: إذا انقسمت أفعاله إلى الواجب والندب لم يكن من يحمل الكل على الوجوب متأسيا ومن يجعل الكل أيضا ندبا متأسيا، بل كان النبي عليه السلام يفعل ما لا يدري فمن فعل ما لا يدري على أي وجه فعله لم يكن متأسيا. أما أبطال الحمل على الوجوب: فإن ذلك لا يعرف بضرورة عقل ولا نظر، ولا بدليل قاطع، فهو تحكم، لان فعله متردد بين الوجوب والندب، وعند من لم يوجب عصمته من الصغائر يحتمل الحظر أيضا، فلم يتحكم بالحمل على الوجوب ولهم شبه: الأولى: قولهم لا بد من وصف فعله بأنه حق وصواب ومصلحة ولولاه لما أقدم عليه ولا تعيد به، قلنا: جملة ذلك مسلم في حقه خاصة ليخرج به عن كونه محظورا، وإنما الكلام في حقنا، وليس يلزم الحكم بأن ما كان في حقه حقا وصوابا ومصلحة كان في حقنا كذلك، بل لعله مصلحة بالإضافة إلى صفة النبوة أو صفة هو يختص بها، ولذلك خالفنا في جملة من الجائزات والواجبات والمحظورات، بل اختلف المقيم والمسافر والحائض والطاهر في الصلوات فلم يمتنع اختلاف النبي والأمة. الثانية: أنه نبي، وتعظيم النبي واجب، والتأسي به تعظيم، قلنا: تعظيم الملك في الانقياد له فيما يأمر وينهي لا في التربع إذا تربع، ولا في الجلوس على السرير إذا جلس عليه، فلو نذر الرسول أشياء لم يكن تعظيمه في أن ننذرها مثل ما نذرها، ولو طلق أو باع أو اشترى لم يكن تعظيمه في التشبه به.
الثالث: أنه لو لم يتابع في أفعاله لجاز أن لا يتابع في أقواله، وذلك تصغير لقدره وتنفير للقلوب عنه، قلنا هذا هذيان، فإن المخالفة في القول عصيان له، وهو مبعوث للتبليغ حتى يطاع في أقاويله، لان قوله متعد إلى غيره، وفعله قاصر عليه، وأما التنفير فقد بينا أنه لا التفات إليه ولو كان ترك التشبه به تصغيرا له لكنا تركنا للوصال، وتركنا نكاح تسع بل تركنا دعوى النبوة تصغيرا، فاستبان أن هذه خيالات، وأن التحقيق أن الفعل متردد، كما أن اللفظ المشترك كالقرء متردد، فلا يجوز حمله على أحد الوجوه إلا بدليل زائد. الرابعة: تمسكهم بآي من الكتاب، كقوله تعالى: * (ونصروا) * (الانعام: 351) وأنه يعم الأقوال والافعال، وكقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * (النور: 36) وقوله: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7) وأمثاله، وجمع ذلك يرجع إلى قبول أقواله، وغايته أن يعم الأقوال والافعال، وتخصيص العموم ممكن، ولذلك لم يجب على الحائض و المريض موافقته مع أنهم مأمورون بالاتباع والطاعة. الخامسة: وهي أظهرها تمسكهم بفعل الصحابة، وهو أنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع، وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا، فشكا إلى أم سلمة، فقالت أخرج إليهم واذبح واحلق ففعل، فذبحوا وحلقوا مسارعين، وإنه خلع خاتمه فخلعوا، وبأن عمر كان يقبل الحجر ويقول: إني لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي عليه السلام يقبلك ما قبلتك وبأنه قال في جواب من سأل أم سلمة عن قلبة الصائم فقال: ألا أخبرته أني أقبل وأنا صائم وكذلك الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين، فقالت عائشة رضي الله عنها: فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا فرجعوا إلى ذلك الجواب من وجوه.