خاصيته، فلا يكون دليلا في حق غيره، وأما ما لم يقترن به بيان في نفي ولا إثبات فالصحيح عندنا أنه لا دلالة له، بل هو متردد بين الإباحة والندب والوجوب وبين أن يكون مخصوصا به وبين أن يشاركه غيره فيه، ولا يتعين واحد من هذه الأقسام إلا بدليل زائد، بل يحتمل الحظر أيضا عند من يجوز عليهم الصغائر، وقال قوم أنه على الحظر، وقال قوم على الإباحة، وقال قوم على الندب، وقال قوم على الوجوب إن كان في العبادات وإن كان في العادات فعلى الندب، ويستحب التأسي به، وهذه تحكمات، لان الفعل لا صيغة له وهذه الاحتمالات متعارضة، ونحن نفرد كل واحد بالابطال. أما إبطال الحمل على الحظر: فهو أن هذا خيال من رأى الافعال قبل ورود الشرع على الحظر، قال: وهذا الفعل لم يرد فيه شرع، ولا يتعين بنفسه لإباحة ولا لوجوب، فيبقى على ما كان، فلقد صدق في إبقاء الحكم على ما كان، وأخطأ في قوله بأن الاحكام قبل الشرع على الحظر، وقد أبطلنا ذلك، ويعارضه قول من قال إنها على الإباحة، وهو أقرب من الحظر، ثم يلزم منه تناقض، وهو أن يأتي بفعلين متضادين في وقتين فيؤدي إلى أن يحرم الشئ وضده، وهو تكليف المحال. أما إبطال الإباحة: فهو أنه إن أراد به أنه أطلق لنا مثل ذلك فهو تحكم لا يدل عليه عقل ولا سمع، وإن أراد به أن الأصل في الافعال نفي الحرج فيبقى على ما كان قبل الشرع، فهو حق، وقد كان كذلك قبل فعله فلا دلالة، إذا لفعله. أما إبطال الحمل على الندب: فإنه تحكم، إذا لم يحمل على الوجوب لاحتمال كونه ندبا، فلا يحمل على الندب لاحتمال كونه واجبا بل لاحتمال كونه مباحا.
وقد تمسكوا بشبهتين: الأولى: أن فعله يحتمل الوجوب و الندب، والندب أقل درجاته فيحمل عليه، قلنا: إنما يصح ما ذكروه، لو كان الندب داخلا في الوجوب، ويكون الوجوب ندبا وزيادة، وليس كذلك، إذ يدخل جواز الترك في حد الندب دون حد الوجوب، وأقرب ما قيل فيه الحمل على الندب، لا سيما في العبادات، أما في العادات فلا أقل من حمله على الإباحة، لا بمجرد الفعل، ولكن نعلم أن الصحابة كانوا يعتقدون في كل فعل له أنه جائز ويستدلون به على الجواز، ويدل هذا على نفي الصغائر عنه، وكانوا يتبركون بالاقتداء به في العادات، لكن هذا أيضا ليس بقاطع، إذ يحتمل أن يكون، استدلالهم بذلك مع قرائن حسمت بقية الاحتمالات، وكلامنا في مجرد الافعال دون قرينة، ولا شك في أن ابن عمر لما رآه مستقبل بيت المقدس في قضاء حاجته استدل به على كونه مباحا إذا كان في بناء، لأنه كان في البناء ولم يعتقد أنه ينبغي أن يقتدي به فيه، لأنه خلا بنفسه، فلم يكن يقصد إظهاره ليعلم بالقرينة قصده الدعاء إلى الاقتداء، فتبين من هذا أنهم اعتقدوا وأن ما فعله مباح، وهذا يدل على أنهم لم يجوزوا عليه الصغائر وأنهم لم يعتقدوا الاقتداء في كل فعل بل ما يقترن به قرينة تدل على إرادته البيان بالفعل. الثانية: التمسك بقوله: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 12) فأخبر أن لنا، التأسي، ولم يقل عليكم التأسي فيحمل على الندب لا على الوجوب، قلنا: الآية حجة عليكم، لان التأسي به في إيقاع الفعل الذي أوقعه على ما أوقعه فما أوقعه واجبا أو مباحا إذا أوقعناه على وجه الندب لم نكن مقتدين به، كما أنه إذا قصد الندب فأوقعناه واجبا خالفنا التأسي فلا سبيل إلى التأسي به، قبل معرفة قصده