عبارة عن أغلب الاحتمالين، ولكن لا يجوز اتباعه إلا بدليل فخبر الواحد لا يورث إلا غلبة الظن من حيث إن صدق العدل أكثر وأغلب من كذبه، وصيغة العموم تتبع، لان إرادة ما يدل عليه الظاهر أغلب، وأكثر من وقوع غيره والفرق بين الفرع والأصل ممكن غير مقطوع ببطلانه في الأقيسة الظنية، لكن الجمع أغلب على الظن، واتباع الظن في هذه الأصول لا لكونه ظنا، لكن لعمل الصحابة به واتفاقاتهم عليه، فكذا نعلم من سيرة الصحابة إنهم ما اعتقدوا كون غير القرآن منسوخا من أوله إلى آخره، ولم يبق فيه عام لم يخصص إلا قوله تعالى: * (وهو بكل شئ عليم) * (البقرة: 92) وألفاظ نادرة، بل قدروا جملة ذلك بيانا، وورد العام والخاص في الاخبار، ولا يتطرق النسخ إلى الخبر، كقوله تعالى:
* (وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) * (القلم: 03) وتخصيصا لقوله تعالى: * (هذا يوم لا ينطقون) * (المرسلات: 53) وتخصيص قوله تعالى: * (وأوتيت من كل شئ) * (النمل: 32) و * (تدمر كل شئ بأمر ربها) * (الأحقاف: 52) و * (ويحيى إليه ثمرات كل شئ) (القصص: 75) وكانوا لا ينسخون إلا بنص وضرورة، أما بالتوهم فلا، ولعل السبب أن في جعلهما متضادين إسقاطهما ذا لم يظهر التاريخ، وفي جعله بيانا استعمالها، وإذا تخيرنا بين الاستعمال والاسقاط فالاستعمال هو الأصل ولا يجوز الاسقاط إلا لضرورة.
تنبيه: أعلم أن القاضي أيضا إنما يقدر النسخ بشرط أن لا يظهر دلالة على إرادة البيان، مثاله قوله: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، عام يعارضه خصوص قوله صلى الله عليه وسلم: إهاب دبغ فقد طهر لكن القاضي يقدره نسخا بشرطين: أحدهما:
أن لا ينبت في اللسان اختصاص اسم الإهاب بغير المدبوغ، فقد قيل ما لم يدبغ الجلد يسمى إهابا، فإذا دبغ فأديم وصرم وغيره، فإن صح هذا فلا تعارض بين اللفظين. الثاني: أنه روي عن ابن عباس أنه عليه السلام مر بشاة لميمونة ميتة فقال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به وكانوا قد تركوها لكونها ميتة ثم كتب: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، فساق الحديث سياقا يشعر بأنه جرى متصلا، فيكون بيانا ناسخا لان شرط النسخ التراخي.
المرتبة الثالثة: من التعارض أن يتعارض عمومان، فيزيد أحدهما على الآخر من وجه وينقص عنه من وجه، مثاله قوله عليه السلام من بدل دينه فاقتلوه فإنه يعم النساء مع قوله: نهيت عن قتل النساء فإنه يعم المرتدات، وكذلك قوله: نهيت عن الصلاة بعد العصر فإنه يعم الفائتة أيضا مع قوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنه يعم المستيقظ بعد العصر، وكذلك قوله: * (تعلمون) * (النساء: 32) فإنه يشمل جمع الأختين في ملك اليمين أيضا مع قوله: * (أو ما ملكت أيمانكم) * (النساء: 3) فإنه يحل الجمع بين الأختين بعمومه فيمكن أن يخصص قوله: * (وأن تجمعوا بني الأختين) * (النساء: 32) بجمع الأختين في النكاح دون ملك اليمين لعموم قوله: * (أو ما ملكت أيمانكم) * فهو على مذهب القاضي تعارض وتدافع بتقدير النسخ، ويشهد له قول علي وعثمان رضي الله عنهما لما سئلا عن هذه المسألة، أعني جمع أختين