الوضع كذلك وضع، وكأن العرب وضعت عن تسعمائة وخمسين عبارتين إحداهما ألف سنة إلا خمسين، والاخرى تسعمائة وخمسون، ويمكن أن يقال: ما صار عبارة بالوضع عن هذا القدر بل بقي الألف للألف، والخمسون للخمسين، وإلا للرفع بعد الاثبات، ونحن بعلم الحساب عرفنا أن هذا تسعمائة وخمسون، فإنا إذا وضعنا ألفا ورفعنا خمسين علمنا مقدار الباقي بعلم الحساب، فلا نقول المجموع صار عبارة موضوعة عن هذا العدد وهذا أدق وأحق، لا كزيادة الألف واللام والياء والنون على المسلم، فإن تلك الزيادة لا معنى لها بغير اللفظ الأول. فإن قيل: لو قال الله تعالى: * (براءة من الله ورسوله) *، فقال الرسول متصلا به: إلا زيدا، فهل يكون هذا كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازا في الباقي؟ قلنا:
اختلفوا فيه، والظاهر أن هذا من غير المتكلم يجري مجرى الدليل المنفصل من قياس العقل والنقل، ولهذا لو قال زيد، وقال غيره: قام، لا يصير خبرا حتى يصدر من الأول قوله قام ، لان نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد، وذلك يجعله خبرا، فإن قيل: فلو أخرج بالاستثناء عن لفظ المشركين الجميع إلا زيدا فهل يصير لفظ المشركين مجازا؟ قلنا: نعم لأنه للجمع بالاتفاق، والخلاف في أنه مستغرق أو غير مستغرق، فهو عند أرباب العموم عند الاستثناء لجمع غير مستغرق دون الاستثناء لجمع مستغرق. وأما النظر الثاني في كونه حجة في الباقي، فقد قال قوم من القائلين بالعموم: إنه لا يبقى حجة، بل صار مجملا، وإليه ذهبت القدرية، لأنه إذا لم يترك على الوضع فلا يبقى للفهم معتمد سوى، القرينة، وتلك القرينة غير معينة فلا يهتدي إليها، ومن هؤلاء من قال: أقل الجمع يبقى لأنه مستيقن، واحتج القائلون بكونه مجملا بأن السارق إذا خرج منه سارق ما دون النصاب والسارق من غير الحرز ومن يستحق النفقة وغير ذلك فبم يفهم المراد منه على سبيل الحصر وقد خرج الوضع من أيدينا، ولا قرينة تفصل وتحصر فيبقى مجملا؟ والصحيح أنه يبقى حجه إلا إذا استثنى منه مجهولا، كما لو قال: اقتلوا المشركين إلا رجلا أما إذا استخرج منه معلوم فإنه يبقى دليلا في الباقي، ولاجله تمسك الصحابة بالعمومات وما من عموم: إلا وقد تطرق إليه التخصيص، وهذا لان لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع لولا دليل مخصوص، والدليل المخصوص صرف دلالته عن البعض، ولا مسقط لدلالته في الباقي، نعم: لا يدل اللفظ على إخراج ما خرج، فافتقر إلى دليل مخرج، وقصوره عنه لا يدل على قصوره عن تناول الباقي، فمن قال:
أعتق رقبة ثم قال: لا تعتق معيبة ولا كافرة، لم يخرج به كلامه الأول عن كونه مفهوما، والرجوع في هذا إلى عادة اللسان وأهل اللغة وعادات الصحابة إذ لم يطرحوا جميع عمومات الكتاب والسنة لتطرق التخصيص إليها، وعلى الجملة: كلام الواقفية في العموم المخصص أظهر لا محالة، فإن قيل: قد سلمتم أنه صار مجازا، فيفتقر العمل به إلى دليل، إذا المجاز لا يعمل به إلا بدليل؟ قلنا: هو حقيقة في وضعه، والدليل المخصص هو الذي جعله مجازا، أما سقوط دلالة المجاز فلا وجه له لا سيما المجاز المعروف، فإنا نتمسك به بغير دليل زائد، كقوله تعالى: * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * (المائدة: 6)، (النساء: 34) فإنه وإن كان مجازا فهو معروف، وكذلك التفهيم بالعمومات المخصصة معروف في اللسان ولا يمكن اطراحه.