الدال هو المؤكد دون التأكيد، فإن التأكيد تابع، وإنما يؤكد بالاستغراق ما يدل على استغراق الجماعة الذين أرادهم بلفظ الناس، قلنا: لا يشعر بالاستغراق، كما لو قال: أكرم الفرقة والطائفة كلهم وكافتهم وجملتهم، لم يتغير به مفهوم لفظ الفرقة، ولم يتعين للأكثر، بل نقول:
لو كان لفظ الناس يدل على الاستغراق لم يحسن أن يقول: كافتهم وجملتهم فإنما تذكر هذه الزيادة لمزيد فائدة فهو مشعر بنقيض غرضهم.
الدليل الرابع: أن صيغ العموم باطل أن تكون لأقل الجمع خاصة كما سيأتي، وباطل أن تكون مشتركا، إذ يبقى مجهولا، ولا يفهم إلا بقرينة، وتلك القرينة لفظ أو معنى، فإن كان لفظا فالنزاع في ذلك اللفظ قائم، فإن الخلاف في أنه: هل وضع العرب صيغة تدل على الاستغراق أم لا؟ وإن كان معنى فالمعنى تابع للفظ، فكيف تزيد دلالته على اللفظ؟
الاعتراض: إن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلم وتغيرات في وجهه، وأمور معلومة من عادته ومقاصده، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف، بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ووجل الوجل وجبن الجبان، وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال: السلام عليكم، أنه يريد التحية، أو الاستهزاء واللهو، ومن جملة القرائن فعل المتكلم، فإنه إذا قال: على المائدة هات الماء، فهم أنه يريد الماء العذب البارد دون الحار الملح، وقد تكون دليل العقل كعموم قوله تعالى: * (وهو بكل شئ عليم) * (البقرة: 92)، (الانعام: 101)، * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * وخصوص قوله تعالى: * (الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل) * (الزمر: 62) إذ لا يدخل فيه ذاته وصفاته، ومن جملته تكرير الألفاظ المؤكدة، كقوله: اضرب الجناة، وأكرم المؤمنين كافتهم، صغيرهم وكبيرهم، شيخهم وشابهم، ذكرهم وأنثاهم، كيف كانوا وعلى أي وجه وصورة كانوا، ولا تغادر منهم أحدا بسبب من الأسباب ووجه من الوجوه، ولا يزال يؤكد حتى يحصل علم ضروري بمراده، أما قولهم ما ليس بلفظ فهو تابع للفظ فهو فاسد، فمن سلم أن حركة المتكلم وأخلاقه وعادته وأفعاله وتغير لونه وتقطيب وجهه وجبينه وحركة رأسه وتقليب عينيه تابع للفظه، بل هذه أدلة مستقلة يفيد اقتران جملة علوما ضرورية، فإن قيل: فبم عرفت الأمة عموم ألفاظ الكتاب والسنة وإن لم يفهموه من اللفظ، وبم عرف الرسول من جبريل، وجبريل من الله تعالى، حتى عمموا الاحكام؟ قلنا:
أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد عرفوه بقرائن أحوال النبي عليه السلام وتكريراته وعادته المتكررة، وعلم التابعون بقرائن أحوال الصحابة وإشاراتهم، ورموزهم وتكريراتهم المختلفة، وأما جبريل عليه السلام فإن سمع من الله بغير واسطة، فالله تعالى يخلق له العلم الضروري بما يريده بالخطاب بكلامه المخالف لأجناس كلام الخلق، وإن رآه جبريل في اللوح المحفوظ فبأن يراه مكتوبا بلغة ملكية ودلالة قطعية لا احتمال فيها.
الدليل الخامس: وهو عمدتهم: إجماع الصحابة فإنهم وأهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم، إلا ما دل الدليل على تخصيصه، وإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم، فعملوا بقول الله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم) *