وأما قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) (1) فغير مانع مما قلنا: من قبل أن هذا القول لم يمنع تساوي الجمع في كثير من الشرائع، فعلمنا أن المراد بعضها، وذلك البعض الذي خالف به شريعتنا شرائعهم، هو ما وقع فيه النسخ، فلا يلزمنا استعماله، وقدمنا ذكر قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) (2) إلى قوله تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (3) وهذا الظاهر قد اقتضى المساواة في الجميع، لأن الدين اسم ينتظم جميع ما ألزمنا الله تعالى من موجبات أحكام العقل والسمع جميعا.
وكذلك قوله تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) (4) لأن الملة اسم يجمع ذلك.
ومما يدل على أن ما ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو شريعة للنبي عليه السلام:
قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار) (5) إلى قوله تعالى: (وأولئك هم الكافرون، والظالمون، والفاسقون) فانتظمت هذه الدلالة على صحة ما ذكرنا من وجوه:
أحدها: أنه روي أنها نزلت في اليهود حين تحاكموا إلى النبي صل الله عليه وسلم في شأن الرجم، فنبه بها على كذبهم، وبهتهم في كتمانهم لأمر النبي عليه السلام، ولأحكام التوراة، فقال تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة، فيها حكم الله، ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) إلى قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) فحكم بإكفارهم في الإعراض عن الرجم، الذي كان صار شريعة للنبي عليه السلام، والامتناع من قبول شريعته فيه، فصار كأنه (6) كتب عليهم في التوراة.
وغير جائز أن يكون الحكم بإكفارهم متعلقا بتركهم الرجم الذي كان من حكم التوراة، لأنهم قد كانوا مأمورين بترك تلك الشريعة، واتباع شريعة النبي عليه السلام، فغير جائز أن يكونوا مستحقين لسمة الكفر في هذه (7) الحال بتركهم حكم التوراة، إذ هم