والوجه الآخر: أنه لو كان حكم الكثير في هذا كحكم القليل، لوجب إذا جاز من كل واحد منا أن يتكلم بحرف من حروف المعجم، وتكلمه من عرض الكلام، أن يجوز منه إن أتى بمثل القرآن في نظمه و ترتيبه، إن كان يمكنه أن يتكلم بكل حرف منه على الانفراد، لوجب أن يكون المعجم الذي يمكنه أن يتكلم بكل كلمة مما في شعر امرئ القيس، فيخترعه وينتبه مبتدئا به. أن نجوز منه إنشاء (1) قصائد مثل قصائد امرئ القيس، في وزنها وألفاظها ونظمها، وكان يجب أن يكون الواحد إذا أخبر عن شئ واحد على جهة التظني والحسبان، فيصادف وجود مخبره على ما أخبر به، أن يجوز منه أن يظن كل شئ يخطر بباله ويتوهمه، فيخبر به، ثم يتفق أن يصادف في جميع ذلك وقوع مخبره، وقد علم بطلان ذلك ضرورة، فكذلك كل واحد منا إذا جاز عليه الكذب في خبره إذا انفرد به فغير جائز وقع ذلك من الجماعات الكثيرة، التي لا يجوز عليها التواطؤ في خبرها.
قال أبو بكر: ومن الناس من يقول: إن العلم بصحة الأخبار المتواترة التي ذكرنا اكتساب، وليس بعلم اضطرار.
والدليل على أن العلم: بما قدمنا وصفه من الأخبار اضطراريا استواء (2) حال المميز وغير المميز في العلم، كالصبيان ونحوهم، لأنا نعلم من أنفسنا أنا كنا نعلم في حال صبانا بكون أجدادنا وأوائلنا كعلمنا الآن بهم.
وأيضا: فلو كان العلم بالاكتساب لجاز لبعضنا أن لا يكتسبه (ولا يستدل) (3) عليه، فلا يعلم بصحته، لأن ما كان طريق العلم به الاستدلال (لا يعرفه) (4) من لا يستدل.
وأيضا: فلو كان العلم به اكتسابا، لجاز وقوع الاختلاف فيه، ولجاز وجود الشك فيه مع سماع هذه الأخبار كسائر العلوم المكتسبة، فلما بطل ذلك، وكان المنكر لبعض ما ذكرنا كالمنكر لبعض ما يذكره بحاسته، علمنا أن العلم بما وصفنا اضطرار.
قال أبو بكر: فهذا الذي ذكرنا جملة كافية، تثبت التواتر الذي نعلم صحته (5) اضطرار.